يشير بعض السياسيين الأميركيين إلى أن تهديدات الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) وبإقامة جدار على الحدود وطرد الحالمين، قد يكون لها تأثير قوي على الانتخابات الرئاسية القادمة في المكسيك. لكن المكسيكيين إذا صوتوا من أجل التغيير فسيكون قرارهم على الأرجح ناتجاً عن السأم من الأوضاع الداخلية، بداية من غياب المساءلة وتفشي جرائم العنف والفساد. ورغم أن تصاعد معدلات القتل في المكسيك يجتذب وسائل الإعلام، فإن مخالفات الشركات قلصت الاستثمار والابتكار والنمو. صحيح أن إدارة الرئيس بينا نيتو دافعت عن إصلاحات هيكلية، لكن فوائدها عصف بها واقع الحال الذي تمثله المقولة الشائعة «من لا يغش لا يتقدم». وفي هذا المجال مثلت الولايات المتحدة قوة خير بالفعل، فقد دشنت وزارة العدل الأميركية ولجنة البورصة والأوراق المالية الأميركية قضايا كبيرة للتحقيق في وقائع رشوة وتلاعب بالأسهم وبالأسواق والاحتيال الصريح. وأحدث مثال على نشاط العدل الأميركي وتخاذل العدل المكسيكي يتضح في قضية فساد شركة العقارات «ديسارولادورا هوميكس» التي كانت توصف ذات يوم بأنها أكبر وأسرع شركات العقارات نمواً في المكسيك. وقضية كشف فساد الشركة تمت برمتها في الولايات المتحدة، بما في ذلك صور الأقمار الاصطناعية لقطع أرض شاغرة زعمت الشركة أنها أقامت آلاف المنازل عليها، لكن النظام القانوني في المكسيك لم يبذل إلا القليل من الجهد، وبدلاً من توجيه اتهامات جنائية لـ«هوميكس» ألقت المكسيك بأبرز الشخصيات التي كشفت عن الفساد في السجن. وجاء هذا في أعقاب تحقيق فاز بجائزة بوليتزر للصحافة نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» عن الرشوة النظامية التي قامت بها وول مارت لعشرات المسؤولين المحليين في المكسيك للتعجيل بالتصاريح وتغيير القوانين وإزالة العراقيل القانونية في الوقت الذي كانت تبني فيه متاجر جديدة عبر البلاد. وتنتهي وزارة العدل الأميركية من تسوية تقول تقارير إنها ستغرم وول مارت بـ300 مليون دولار. وظلت المحاكم المكسيكية ملتزمة بالصمت إلى حد كبير. وتعقبت لجنة البورصة والأوراق المالية الأميركية ثالث أكثر رجال المكسيك ثراءً، وهو «ريكاردو ساليناس». بسبب اتهامات فساد وتلاعب بشراء الأسهم. وتمت تسوية الأمر معه أخيراً مقابل أكثر من سبعة ملايين دولار، وحذت لجنة البورصة والأوراق المالية في المكسيك الحذو نفسه بدرجة ما وغرمت الملياردير 300 ألف بيزو (نحو 28 ألف دولار)، ورغم أنها عقوبة هزيلة فقد ألغتها المحاكم المكسيكية لاحقاً. وفيما عملت الولايات المتحدة مع البرازيل وسويسرا للحصول على حكم إدانة بقيمة 2.6 مليار دولار ضد شركة البناء البرازيلية العملاقة «أودبيريشت»، بسبب اتهامات بالرشوة والابتزاز، لم تحرك السلطات القانونية المكسيكية ساكناً، تماماً كنظيرتها الفنزويلية. والواقع أن المكسيك أقالت المدعي العام الذي كان يحقق في القضية. وبالمقابل رفض المجتمع المدني المكسيكي ورجال الأعمال والمواطنون العاديون تقييم الرئيس المكسيكي القائل بأن الفساد ثقافة، وصبوا غضبهم على تعزيز مؤسسات المكسيك المتراخية. وجمعت حملة في عام 2016 أكثر من 600 ألف توقيع لإجبار السياسيين على الكشف عن إقراراتهم الضريبية وممتلكاتهم وصراع المصالح لديهم. وأدت الضغوط المجتمعية إلى إقامة نظام قومي جديد لمكافحة الفساد يجعل كثيراً من صيغ النفوذ غير المستخدم في محله جريمة صريحة ويوفر أدوات أفضل ومدعين أكثر استقلالاً لتعقب الجناة. وسعى آخرون وراء تمحيص الأدلة ليساعدوا بشكل قوي في إقامة قضايا محتملة، لكن الحكومة أبطأت وأضعفت هذه المبادرات التي تستحق الإشادة. ولم يقر نصف ولايات المكسيك تقريباً التشريع اللازم لإقامة أنظمة محلية لمكافحة الفساد. ولم تعين الحكومة الاتحادية بعد المدعي الأساسي لمكافحة الفساد ونائباً عاماً ومدققاً رئيساً وعدداً كافياً من القضاة. ونقل عملية تحقيق العدل في نشاط الشركات إلى الولايات المتحدة ليس حلاً. ورغم أن المجتمع المكسيكي المدني رحب بعمليات التقاضي الأميركية، فإن المؤسسات الأميركية لن تستطيع تغيير القواعد الأساسية في المكسيك ولن تجعل هذا من أولوياتها، وللأسف لم يقدم المنافسان الرئاسيان الأساسيان، وهما أندريس مانويل لوبيث أوبرادور، وخوسيه أنطونيو ميد، حتى الآن إلا كلاماً مرسلاً أكثر مما تحدثا عن برامج محددة لكيفية التعامل مع هذا التحدي الكبير. ورغم كل الخطوات التي قطعتها المكسيك في سبيل انفتاح اقتصادها وإصلاح نظام العمل فيها وقوانين الاحتكار والتمويل والاتصالات والتعليم والطاقة، سيظل النمو الاقتصادي الأكثر سرعة وشمولاً بعيد المنال حتى تستطيع البلاد تطبيق قواعد قانونية رئيسة، ولا يمكن إلقاء اللوم في هذا على ترامب. شانون أونيل باحثة بارزة في دراسات أميركا اللاتينية بـ«مجلس العلاقات الخارجية» -نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»