إن أحد أهم المحدِّدات، التي تؤثر في تعاملنا بالعالم العربي مع التغيير الكاسح الذي يشهده وسيشهده العالم على المستويات كافة، يتمثل في طبيعة نظرتنا إلى هذا التغيير، وموقعنا فيه، وإدراكنا لدورنا في مسيرته، وحدود قدرتنا على التأثير فيه. وفي هذا السياق، لا بدَّ من الإشارة إلى عدد من الحقائق، التي من المهم أن يدركها العرب جيداً، وهم يتعاملون مع التغيير حولهم، ويفكرون فيه، ويطلقون أحكامهم بشأنه، تُعَدُّ بمنزلة إطار فكري مقترَح لفهم هذا التغيير. الحقيقة الأولى أنه لا يمكن إيقاف التغيير، أو الوقوف في وجهه، لأنه مثل الفيضانات أو السيول التي تجرف كل قديم، كما أنه أمر «حتمي» في تاريخ المجتمعات، مثلما يقول المفكر العربي عبدالرحمن بن خلدون. غير أن هناك مَن يحاولون التصدي للتغيير، لأنهم لا يملكون الشجاعة، أو الثقة بالنفس، أو الإرادة القوية، التي تجعلهم يقبلون التحدي للانخراط في هذا التغيير ومحاولة تجييره لمصلحتهم، ولكنهم يحاولون إيجاد مبرِّرات زائفة لموقفهم من الدين أو التقاليد، أو التخويف من المجهول، والتحذير من الضرر على الهوية الحضارية والثقافية، وغير ذلك من المبرِّرات والشعارات. لكن الأمر المؤكد أن هؤلاء لن يستطيعوا تعطيل التغيير، لأن غيرهم استخدم المبرِّرات نفسها في الماضي، ولم يستطِع أن يقف في وجه موجات التحول والتجديد، والنتيجة ستكون خسارتهم، ولكن للأسف لن يكونوا وحدهم، وإنما ستكون معهم أوطانهم، وأجيال تضيع أحلامها وطموحاتها، وتستنزَف جهودها في جدل عقيم حول ملاءمة التغيير للعادات والتقاليد والشريعة وغيرها، بينما يمضي العالم من حولنا نحو الأمام من دون أن يتخلَّى عن دينه أو عاداته أو تقاليده أو ثقافته، ولنا في دول كاليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة أمثلة نموذجيّةٌ لبلاد منفتحة على العالم استطاعت الوصول إلى أعلى مستويات التقدم العلمي والتكنولوجي مع الاحتفاظ بثقافتها وتقاليدها وقيمها الأصيلة، إذاً لا تعارُض بين هذا وذاك إلا في عقول الذين يخافون التغيير، أو لا يملكون أدواته. الحقيقة الثانية هي أنه لا بدَّ من أن نعترف -نحن العرب- بأن ثقافتنا تحتوي على بعض الجوانب السلبية، التي تعوق التغيير، أو تمنع انخراطنا الحقيقي فيه، وحان الوقت للتعامل بشكل نقدي مع هذه الجوانب السلبية بشجاعة ومن دون أي تردُّد أو تأجيل. وهذا بالطبع لا يتعارض مع فخرنا واعتزازنا بثقافتنا وما تتميز به من عمق وثراء، بل إنه لمصلحة هذه الثقافة وقدرتها على البقاء والتطور والتأثير، لأن قوة الثقافة من قوة أهلها، وحضورها في العالم من حضور أهلها في مجالات العلم والتكنولوجيا والفكر والإبداع، فيما تخفت الثقافة، أو تتراجع، حينما يتراجع أهلها في مضمار التقدم الحضاري. والحقيقة الثالثة، أنه لا يمكن لأحد، مهما حاول، أن يظل بعيداً عن التغيير وآثاره وتداعياته، ففي ظل العولمة، والفضاءات المفتوحة، وثورة الاتصالات الكبرى، انتهى عصر العزلة، فلا يمكن لدولة أو شعب أو مجتمع أن يعزل نفسه عن العالم. ولذلك فإن الذين يعارضون التغيير، أو يتعاملون معه بأيدٍ مرتجفة وعقول مشوَّشة، سيضطرون إلى مواجهة نتائجه وتحدياته، لكن من موقع رد الفعل وليس الفعل، وموقع المتفرج أو المشاهد وليس الفاعل والمشارك، لأن حركة التاريخ حينها ستكون قد مضت في طريقها من دون توقف، وأصبح اللحاق بها أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، لأن التطور الكاسح في العالم لا ينتظر أحداً، بل لا يرحم أحداً. والحقيقة الرابعة أن التغيير، مثلما يحمل في طيَّاته تحديات صعبة، ينطوي على فرص عظيمة لأصحاب العيون المفتوحة والعقول المستنيرة، الذين يجيدون التعامل مع التحولات التي يشهدها العالم، ويعرفون أن الدول والمجتمعات قد غدت، خلال المرحلة الحالية من تاريخ العالم، أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التغيير والابتكار لمواكبة روح العصر، وإما الاندثار والفناء، كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي -رعاه الله- في مقاله التاريخي الذي نشره في فبراير 2015 بعنوان: «الدول بين الابتكار أو الاندثار». فالمعركة معركة وجود، لأن التغيير كاسح ومتسارع ولا ينتظر أحداً، والذي لا يتجاوب معه إنما يحكم على نفسه بالفناء. ولا شك في أن التغيير يخلق حالة من القلق والخوف من المجهول لدى الكثيرين، وهذا أمر طبيعي في التعامل مع كل جديد، لكنه في الوقت نفسه يُعَدُّ ظاهرة إيجابية، لأنه يستنفر ويستفز القدرات والإمكانيات لدى الأمم والشعوب، التي تنظر إليه بصفته تحدياً حضارياً عليها أن تثبت ذاتها، وتحافظ على دورها وحضورها في إطاره، كما أن غياب التغيير يصيب المجتمعات بالتكلُّس والجمود، اللذين يؤديان إلى انحلالها وتفسُّخها، مثلما يرى ذلك المفكر العربي عبدالرحمن بن خلدون، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي، أيضاً: إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يُفسده *** إن سالَ طاَبَ، وإن لم يَجْرِ لم يَطِبِ والحقيقة الخامسة أن التغيير ينطوي على الإيجابي مثلما ينطوي على السلبي، ولا يمكن التذرُّع بالجوانب السلبية لرفض التغيير، أو معارضته، أو وضع العراقيل أمامه، لأنه حادثٌ لا محالة، ولا يمكن إيقافه، فهل يمكن لأي قوة إيقاف ثورة الهواتف الذكية وما تقوم به شركة «آبل» من إبداعات وابتكارات خارقة ومستمرة في هذا الخصوص؟! ولذلك فإن الأفضل التعامل مع هذا التغيير، والمشاركة فيه، للاستفادة من جوانبه الإيجابية، وتقليل جوانبه السلبية إلى الحد الأدنى. ففي كل عملية تغيير لابدَّ من أن تكون هناك سلبيات، ولو أن العالم وقف أمام هذه السلبيات متجمِّداً لمَا تقدم خطوة واحدة إلى الأمام. ولا شك في أن التغيير الجاري في العالم، خاصة على المستويين الاجتماعي والثقافي، منه ما لا يناسبنا، بوصفنا عرباً ومسلمين، وقد لا يتفق مع معتقداتنا وعاداتنا، وليس المطلوب منا السير مع موجة التغيير بما يُعارض هذه المعتقدات والتقاليد، أو بما ينال من هويتنا وخصوصيتنا الثقافية والحضارية، لكنَّ ما أقصده هنا هو التغيير الإيجابي الذي ينقل مجتمعاتنا إلى الأفضل على المستويات المختلفة، والذي يفتح آفاق التقدم والعلم والتنمية أمام الأجيال الحالية والقادمة، ويجعلنا عنصراً فاعلاً في الحضارة الإنسانية، فهذا النوع من التغيير لا بدَّ من أن نكون جزءاً منه، ولدينا القدرة على المشاركة فيه، والتفاعل الإيجابي معه أخذاً وعطاءً. والحقيقة السادسة أن عدم التقدم إلى الأمام لا يعني الثبات في المكان فقط، وإنما يعني الرجوع إلى الخلف أيضاً. ففي ظل عالم يتغير باستمرار، فإن الذي لا يسير مع التغيير بوعي وإرادة وينخرط فيه، ويشارك في فعله، هو في الحقيقة يتقهقر كل يوم خطوات إلى الوراء، ببساطة لأن الآخرين يسبقونه إلى الأمام. والحقيقة السابعة والأخيرة أنه لا يوجد في ديننا الإسلامي ما يعوق انخراطنا في حركة التغيير الجذرية التي يعيشها العالم، وليس فيه ما يمنعنا من التقدم أو الإبداع، لكنَّ فهم بعضهم الخطأ والمشوَّه له هو الذي يعوق التقدم، ويعود بنا إلى الوراء بدلاً من أن يتقدم بنا إلى الأمام، ويقدم رسالة الإسلام على غير صورتها الحقيقية إلى العالم. ولذلك أتمنى ألا نزجَّ بالدين في التعامل مع كل تغيير جديد في العالم، لأن ديننا لا يمنعنا من التطوير والتغيير والتحديث، ويجعل ذلك مسؤوليتنا في المقام الأول، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى: «إنَّ اللهَ لا يغيِّرُ ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفُسِهِم». (الرعد: الآية 11). وضمن هذا السياق العام، فإن قضية التغيير لا بدَّ أن تكون في مقدمة أولويات دولنا العربية، سواء في نظرتها إلى الحاضر، أو تخطيطها للمستقبل، ولذلك أقترح أن تستحدث هذه الدول أجهزة حكومية تكون مهمتها الرئيسية التعامل مع التغيير، ووضع الأطر والأسس الكفيلة بالانخراط فيه. إن هذا الإطار الفكري لفهم التغيير على المستوى العربي ربما يصطدم بقناعات بعضهم ممَّن يصرون على البحث عن التقدم في الماضي، وليس في الحاضر أو المستقبل، ويعتقدون إمكانية الانعزال عن العالم، لكنَّ حركة التطور والتغيير في العالم أكبر وأسرع من أن تنتظر المتجمِّدين في أماكنهم وعقولهم، أو المترددين والخائفين ممَّن تزعزعت ثقتهم بأنفسهم. إن المعادلة التي يجب أن يعترف بها الجميع، خاصة في العالم العربي والإسلامي، والعمل وفقاً لها، هي: إما العيش مع التغيير، وإما العيش في الكهوف بعيداً عن العالم.