كان حدثاً مشهوداً ذلك الذي احتضنته العاصمة المغربية الرباط يوم 27 يناير الماضي، عندما حاضر الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن في موضوع «الأسس الائتمانية للمرابطة المقدسية»، منطلقاً في البداية من أرضية نقدية مفادها أن الأمة الإسلامية أصبحت عدوة لنفسها، وأنه متى صار الأمر كذلك، فذاك علامة أفولها، خاصة في زمن وعالم فُقد فيه خُلق الحياء، بحيث بات كل قوي فيه يصنع ما يشاء، ولا غرابة حينها أن يلقى الإنسان ألواناً شتى من الأذى، غير أن ما يلقاه الإنسان الفلسطيني من أذى الأقارب والأباعد جميعاً ليس له نظير ولا تقدير، ناهيك عما يقاسيه من الكيان الإسرائيلي، الذي أضحى إيذاؤه بلا وصف. وحتى يقف الجمهور على حقيقة هذا الإيذاء، الذي عرّف الدكتور طه عبد الرحمن حقيقة هذا الإنسان الذي أوذي أيّما أذى، فالإنسان الفلسطيني له خصوصية ليست لسواه، إذ أرضه ملتقى العوالم، الشّهَادي منها والغيبي، وإرثه ملتقى الأبعاد، الزمني منها والسرمدي. وكان غرض المحاضر في هذه المداخلة، أن يسلك مقاربة فلسفية لا تجرّد الأرض الفلسطينية من أيّ عالم من عوالمها، بل تحفظ لها هذه العوالم كلها، ولا تجرّد الإرث الفلسطيني من أي بعد من أبعاده، بل تحفظ له هذه الأبعاد كلها، ومبنى هذه المقاربة، التي أطلق عليها اسم «المقاربة الائتمانية»، على مبدأ أساسي، وهو أن لكل شيء بعدين؛ أحدهما الصورة، وهي المظهر الخارجي، والثاني الروح، وهو الجوهر الداخلي. وبتطبيق هذا المبدأ الائتماني على الإيذاء الإسرائيلي تبين أن صورة هذا الإيذاء تقوم على وجه الإجمال في إيذاء الفلسطينيين من جانبين؛ أحدهما إيذاء الأرض التي بارك فيها ربّهم، والثاني إيذاء الإرث الذي أنتجته فطرتهم. ومتى تأملنا هذين الإيذاءين، إيذاء الأرض المباركة وإيذاء الإرث الفطري، وجدنا أن روح إيذاء الأرض المباركة تتمثل في إيذاء الإرث الفطري تتمثل بالذات في إيذاء الذي أنتج هذا الإرث، أي إيذاء الإنسان. تترتب عن هذا نتيجتان؛ أولاهما أنه لمّا كانت الروح هي الأصل في تفسير الصورة وجب أن يكون إيذاء الإله هو الأصل في تفسير إيذاء الأرض، وأن يكون إيذاء الإنسان هو الأصل في تفسير إيذاء الإرث؛ والنتيجة الثانية أنه لمّا كانت مسألة الإله ومسألة الإنسان لا تعنيان الفلسطينيين وحدهم، وإنما تعنيان الناس كافة، فلزم ألا يختص الإيذاء الإسرائيلي بالفلسطينيين وحدهم، بل يعمّ غيرهم من الناس، بحيث يتوجب على غير الفلسطيني أن يشتغل اشتغال الفلسطيني بدفع الأذى الإسرائيلي الذي لحق الإله من حيث هو إله ولحق الإنسان من حيث هو إنسان. وخلص طه عبد الرحمن إلى أن المقاربة الائتمانية توجب رد ملكية الأرض المحتلة إلى روحها وهي القداسة، ورد ذاتية الفطرة المحتلة إلى روحها وهي الأصالة، مضيفاً أن المرابطة المقدسية إنما هي استرجاع القداسة للأرض التي دنستها قوات الاحتلال، واسترجاع أصالة الفطرة التي ضيعها الاحتلال الإسرائيلي، لذلك، استند تصدي هذه المرابطة لتدنيس الأرض إلى ميثاق الأمانة الملكوتية، وجاء في ثلاث مراتب: رفع السيطرة الإسرائيلية عن أي شيء في أرض فلسطين، والثانية، ترسيخ ثقافة الائتمان وتشمل التفكر في الآيات التكريمية والتكليفية، وحفظ الموروث الروحي وشهود الإرادة الإلهية في العالم، وتقديم الوفاء للواجب على استيفاء الحق، أما المرتبة الثالثة فهي استرداد الأمانة المسلوبة، ولها شرطان، أحدهما أن يكون مقصد المرابطة لا تحصيلُ مِلك بعينه، ولا حفظ أمانة بعينها، وإنما حفظ مبدأ الأمانة لنفسه، إذ أوشك هذا العالم أن يكون عالم ما بعد الأمانة، والثاني، أن يكون منهجها لا الوقوف عند القوة المادية، وإنما إسنادها إلى القوة الروحية، ولا الانحسار في كيفية واحدة للمواجهة بعينها، وإنما التعاطي لكل الكيفيات الممكنة، ولا الجمود على هذه الكيفيات وإنما الابتكار الدائم لها، ولا تخصيص الرباط بأرض فلسطين وإنما تعميمه على الأرض كلها، مع حفظ خصوصية كل رباط حيثما كان. * أمين عام المؤتمر الإسلامي- الأوروبي