قبل اندلاع الانتفاضة التي أدت إلى تنحية الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح جمعتني جلسة مطولة في إحدى المدن الخليجية مع شخصيات يمنية وازنة من بينها إحدى قيادات الجنوب المعروفة، وقد فاجأني وقتها بالقول إن مشروع الوحدة اليمنية فشل عملياً ولا سبيل لاستمرار الدولة الموحدة على الأسس نفسها. ومع أن حالة إجماع سياسي داخلي واسعة ظهرت ضد الانقلاب الحوثي الذي كان هو السبب الفعلي لتمزيق اليمن، كما أن التحالف العربي الذي تدخل لدعم الشرعية وضع في مقدمة أجندته الحفاظ على وحدة اليمن وتحريره من الميليشيات الحوثية ومن الخطأ تحميله المصاعب الحالية، إلا أن الأحداث الأخيرة في عدن أثبتت ما كان معروفاً من ضرورة إعادة بناء المشروع اليمني على أسس جديدة للحيلولة دون تفكك البلد مجدداً. وللحالة اليمنية ما يشبهها في ساحات أخرى على رغم اختلاف السياقات والتجارب: في العراق لا سبيل لإنكار طبيعة المطلب الانفصالي الكردي والمشاكل المطروحة في الوسط السُّني العربي، وفي ليبيا حالة انقسام وتفكك قائمة تحتاج لهندسة سياسية جديدة، وفي سوريا وضع مماثل لا يجدي معه التدخل العسكري الروسي وقبضة النظام الحاكم في دمشق. ولابد من الإقرار هنا بأن مقاربات التدخل الدولي السائدة أظهرت إلى حد الآن عجزاً فادحاً عن معالجة أزمات الانتقال السياسي في البلدان العربية التي شهدت محنة التفكك والصراع الداخلي لسبب أساسي هو التشبث الميكانيكي بمنطق الدولة الوطنية السيادية المركزية والسعي لتحقيق المصالحة تحت سقفها ومن داخل هياكلها المؤسسية دون اعتبار لحالة الانفصام المتزايدة بين الكيان السياسي والنسيج الاجتماعي الذي لم تعد قادرة على ضبطه وتمثيله. والخلل في هذا التصور راجع إلى أن نموذج الدولة الوطنية يستند إلى «بديهية» اجتماعية من حيث النظر إلى طبيعة نشأة هذه الدولة، وإلى «بديهية» قانونية تتعلق بشرعيتها. والبديهية الأولى هي التي تعبر عنها نظرية «العقد الاجتماعي» التي تعني أن الحالة السياسية هي نتاج طبيعي لتوافق عام ينتج عنه تفويض السلطة المركزية بإدارة شؤون المجتمع، والبديهية الثانية تربط عضوياً بين الهيمنة السياسية والمنظومة القانونية التي يفترض أنها التعبير عن الإرادة المشتركة للمجتمع. إن هذا النموذج الذي طرح إشكالات نظرية عويصة في السياق الأوروبي، حيث ظهر فيه في القرن التاسع عشر، يفقد كل فاعليته في حال انهيار السلم الأهلي الذي هو الدليل المباشر على تحلل «العقد الاجتماعي» وتآكل «شرعية» الدولة كما هو الشأن حالياً في الساحات العربية المذكورة. وفي مثل هذا الوضع، يضطر العقل السياسي للتعامل مع معضلة التشكل التكويني للسلطة السياسية الجماعية الذي هو السؤال المتجاوز في النظرية السياسية الحديثة القائمة على سردية التعاقد الاجتماعي الأصلي والتأسيس القانوني المترتب عليها. وفي أفريقيا جنوب الصحراء ذهب العديد من البلدان في بداية التسعينات إلى محاولة تمثيل اللحظة التأسيسية الأصلية للجسم السياسي من خلال تجربة المؤتمرات الشعبية السيادية التي كانت محدودة النجاح والفاعلية في غالب الأحيان، في حين اختارت بلدان «الربيع العربي» (باستثناء ليبيا التي لم تكن فيها حالة سياسية طبيعية) الحفاظ على خيط «الشرعية» وإدارة التغييرات من منطلقها. والإشكال الكبير المطروح هنا هو أن مسار «التعاقد» الجديد يختلف نوعياً عن أسطورة الانتقال الحر من حالة الطبيعة (حالة «حرب الكل ضد الكل» بلغة الفيلسوف توماس هوبز) إلى الحالة السياسية الشرعية كما تصورها الفكر الليبرالي الأوروبي الحديث، بل هو في حقيقته أثار حالة الصراع بين المجموعات المسلحة والزعامات الطائفية والإثنية التي هي النقيض الجوهري لمفهوم الذات الفردية الحرة التي تصوغ بإرادتها المستقلة نظامها السياسي المعبر عن هويتها الجماعية. وما تحتاجه الساحة العربية هو التفكير بمفاهيم وأدوات جديدة في دلالة وأسس «المواطنة السياسية» في سياقها الفردي الذاتي الذي هو مقتضى الحريات الليبرالية بمفهومها الحديث كخط للحماية من استبدادية السلط الإثنية والطائفية وسياقها الجماعي الأهلي الضروري للحفاظ على تنوع المجتمع وضمان حقوق مكوناته الأهلية في مواجهة استبداد وتجاوزات الدولة المركزية المستندة للشرعية القانونية الصورية في بعض الحالات. ولا يمكن اختزال حركيّة التأسيس السياسي في كتابة الدساتير الديمقراطية وتنظيم الانتخابات النزيهة والتسوية بين زعامات الميليشيات السياسية المسلحة، بل إنها مهمة بنيوية عميقة وطويلة النفس تفضي إلى إعادة بناء المنظومة السياسية للدولة وفق قواعد وآليات ومرجعيات مناسبة وناجعة. --------------- * أكاديمي موريتاني