نعيش في هذه الأيام «شهر تاريخ السود»، وهو وقت مهم لتسليط الضوء على المساهمات التي قدمها الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية في تاريخ الولايات المتحدة. وهو مهم لأنه، مثلما اكتشفنا في كثير من المناسبات أن تلك المساهمات إما تم تجاهلها عن عمد، أو أنها لم تكن معروفة أو مدركة. والأهم من ذلك، أن هذا الشهر لا بد أن يمنحنا فرصة لنعرف المزيد بشأن الميراث المخزي لمعاملة البيض للسود في أميركا. وأعني بذلك، ليس فقط الخطايا الكبرى مثل العبودية أو الجرائم الجماعية أو الفصل العنصري، الذي ميّز تاريخنا، ولكن أعني أيضاً جرائم أخرى لا تحصى أقل شهرة بكثير، غير أنها كانت «جرائم محددة» مدمرة ارتُكبت بحق مجتمع السود. وقد أصبحت مطلعاً على إحدى تلك الجرائم، التي حدثت منذ قرن مضى تماماً، في باحة منزلي الخلفية. فقد عشت طوال العقود الأربعة الماضية في شمال غرب واشنطن. وعندما اشترينا منزلنا، لاحظنا أن العقد التاريخي للمنزل كان ينطوي على «بند» ينص على أنه لا يجوز بيع ذلك العقار لـ«شخص ملوّن». وقد ألغى تشريع الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي ذلك البند، ولكنه ظل في العقد كرسالة تذكير مزعجة على التاريخ العنصري لمدينتي! وما لم أكن أعرفه في ذلك الحين، ولم أكتشفه سوى الشهر الجاري، هو أن ماضي واشنطن كان مكتظاً بنماذج العنصرية الخطيرة الأخرى. وقد أرسل لي أحد جيراني نسخة من بحث أكاديمي مذهل معنون: «الأحرار السود في مقاطعة واشنطن». ويخبرنا البحث بقصة الإجلاء القسري، وتدمير مستعمرتين لمئات من أسر السود الأحرار التي كانت تعيش على بعد أمتار من منزلي. وهاتان المستعمرتان تم تأسيسهما في منتصف القرن التاسع عشر بأيدي أحفاد عبيد سابقين كانوا يقطنون واشنطن منذ أجيال. وكانوا قد أسسوا مشاريع، ودشّنوا مدارس لأطفالهم، وفي أثناء الحرب الأهلية، كان كثير منهم قد خدموا، بتفانٍ، في جيش الاتحاد، مدافعين عن العاصمة في مواجهة قوات الكونفدرالية. وحينئذٍ، كانت المناطق التي أنشئت فيها هاتان المستعمرتان ريفية بدرجة ما، ومنعزلة عن واشنطن البيضاء، وعلى رغم هذا، ازدهرت أحوال تلك الأسر الأميركية السوداء، غير أن جلّ ذلك تغيّر في بداية القرن العشرين. فمع انطلاق «الترام»، وتمديد خدمات الهاتف والكهرباء، أضحى من السهل الوصول إلى تلك المنطقة التي كانت في ضواحي العاصمة، وأصبحت أكثر جاذبية للبيض الراغبين في الانتقال من المنطقة المزدحمة في وسط المدينة. وأثناء العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، تم تطوير المناطق المحيطة بمستعمرتي السود لتصبح مجمّعات للبيض فقط، انطوت عقودها على بند «للبيض فقط»، كذلك الذي وجدته في عقد منزلي. ومع انتقال مزيد من أسر البيض إلى المنطقة، طالبوا ببناء مدارس لأطفالهم. وفي ظل هذا المطلب، وعدم ارتياح كثير من البيض لقربهم من مستعمرتي السود، اتخذت مقاطعة كولومبيا قراراً مشؤوماً! وفي عام 1928، استخدمت الحكومة «حق نزع الملكية من أجل المصلحة العامة»، وسمحت بـ«شراء» العقارات المملوكة للسود في كلتا المستعمرتين، وإجلاء مجتمع الأميركيين من أصول أفريقية من تلك المناطق الواقعة في شمال غرب واشنطن. وفي مكان المستعمرتين، شيّدت المدينة مدرستين للبيض فقط، ومتنزهات لأطفال السكان الجدد للمنطقة. ولعل من المثير للإزعاج بشأن ذلك التاريخ، بل وربما الأكثر إزعاجاً، هو أن جزءاً كبيراً منه مجهول. فأحد أبنائي ارتاد مدرسة «لافاييت»، وأحد أحفادي مسجل حالياً في مدرسة «أليس ديل»، وقد تم تشييد كلتا المدرستين على أطلال مجتمعات السود التي كانت ذات يوم نابضة بالحياة. ولم يتم محو تلك المجتمعات فحسب، ولكن ذكراها أيضاً مُحيت هي الأخرى من ذاكرتنا. ويعني هذا أن أميركا بحاجة إلى «شهر تاريخ السود»، لتثقيفنا بشأن العلماء والمبتكرين والزعماء السياسيين والباحثين من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية الذين قدموا إسهامات عظيمة في تاريخنا، وعلى رغم ذلك فكثير منهم بقوا مجهولين. ونحتاج أيضاً أن يذكرنا هذا الشهر بجرائمنا المنسية، وأننا ولدنا في الخطايا الأصلية لدولتنا من العبودية والعنصرية، وبالثمن الذي دفعه الأميركيون السود لقاء سلوكياتنا. وكدولة، لا يمكننا أن نكفر عن خطايانا، عندما نظل غير مدركين للجرائم المروّعة التي ميزت دولتنا.