أشبعنا بلاشك واقع البحث العلمي العربي المتخلف دراسة ونقاشاً منذ سنين.. فهل تغير الحال منذ مؤتمرات العرب العلمية الأولى قبل خمسين أو ستين عاماً إلى اليوم، حيث حضرت قبل فترة قصيرة آخرها في الكويت؟! أحد الخبراء الاقتصاديين العرب العاملين مع الأمم المتحدة مثلاً، نوه في بحث منشور قبل ثلاثين سنة، 1987، أن المجموعات العلمية والمهنية العربية تعاني من ضعف وانصراف عن البحث والتطوير، وهروب من البحوث التطبيقية إلى الأبحاث النظرية المتعلقة بالترقية الأكاديمية، ومن غياب مراكز البحث، ومن ضعف ثقة المجتمعات العربية بالناتج المصنع محلياً. وأشار إلى أن صناعة الإلكترونيات، كغيرها من الصناعات في البلدان العربية، «تعاني ضعفاً شديداً في هيكليتها، وبطئاً في تطورها ونموها، وتبعيتها المستمرة للشركات المصدرة في جميع أنشطتها». [دراسات في التنمية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، ص352]. ويضيف الخبر نفسه، «حسن الشريف»، أن معظم الجامعات العربية تعتمد برامج تعليمية مشابهة لمثيلاتها في جامعات الدول المصنعة، وقلما تأخذ بعين الاعتبار احتياجات المجتمعات المحلية وظروفها. وهي تهيئ طلبتها في العادة لمتابعة التحصيل العلمي في الدول المصنعة أكثر مما تهيؤهم لمواجهة مشاكل الصناعات المحلية». ومما قاله آنذاك، ولا أدري كم تغير الوضع، «أن الجامعات العربية تُخرِّج كل عام آلاف المهندسين في الاختصاصات الإلكترونية، لكن صناعة الإلكترونيات العربية لا تستوعب منهم سوى العشرات».. وربما يهاجر آلاف آخرون! لماذا لا نتقدم في هذا المجال، وما هي معيقات البحث العلمي في العالم العربي؟ ربما كان أبرزها ضياع الأهداف البحثية في مؤسسات العالم العربي «الديكورية»، فهي ليست مهمة حقاً ولا تزيد أو تنقص من مقام الأساتذة والمدراء والوزراء شيئاً! ولا وجود لمنافسة داخلية أو خارجية، وفي دول كثيرة لا تستغني أي مؤسسة عن «باحث»، لأن جذوره شديدة التغلغل، ولأنه في بعض الأحيان ربما كتب رسالة الماجستير والدكتوراه لبعض الكبار من رؤسائه، ولايزال يرفدهم بالدراسات القيمة! يساعد في دوام هذا التردي هيمنة القطاع العام في بعض الدول العربية، والتعيين السياسي في المناصب العلمية، واستشراء البيروقراطية الحكومية وغير ذلك، ثم إن الجهد العلمي الغربي والآسيوي متوفر للاستفادة، كما أن «تشغيل الذهن» والعلم والاختراع ليست من مُحسنات الوضع أو الارتقاء الوظيفي بالضرورة، وقد قيل إن «الإنسان العالم» يعرف كل الحقائق و«الإنسان الناجح» يعرف كل الرجال المهمين في إدارته! هل يمكن الارتقاء بالبتروكيماويات والإلكترونيات وغيرها من خلال أقسام الكيمياء والكهرباء في الجامعات أم لابد من تحويل البحث العلمي إلى مشروعات اقتصادية تمول نفسها وتبيع إنتاجها وتنافس مثيلات منتجاتها وغير ذلك؟ ثم كيف يمكن لبعض الدول التي تعاني من الفساد في بعض جوانب إدارتها المالية أو السياسية، أن تنجح في مجال البحث والاختراع؟ ثم إن الأستاذ في الجامعات العربية غارق حتى أذنيه في التدريس والأعمال الروتينية والتصحيح والأعداد الهائلة التي تقبلها الجامعات الحكومية من طلاب الثانوية، والكثير من هؤلاء الطلبة بحاجة ماسة للتأهيل والتركيز والتوجيه، وهذا ما يرهق الأستاذ والمؤسسة، ويجعل الحديث عن «البحث العلمي الأصيل» سباحة في دنيا الأحلام. هل ثمة علاقة وثيقة اليوم في بلادنا بين الجامعات والشركات، وبين الباحثين في مجالات الإنتاج والعاملين فيه؟ وهل تطور الأقسام العلمية والمختبرات يجعلها قادرة على الاختراع والتجديد؟ وما مدى ما تهتم الشركات العربية من صناعية وزراعية وتجارية، بما يحدث في الجامعات وما يمكن أن يقوم بين الطرفين من تعاون؟ وأين تتجه أموال الأوقاف العلمية والمبرات الخيرية، والتي كثيراً ما تدعم البحث والاختراع في الجامعات الغربية وبخاصة الأميركية؟ المؤسف أن بعض طلبة العالم العربي ومنهم الكثير من الطلبة المبعوثين من دول مجلس التعاون ممن «يتخصصون في المجالات العلمية» في الولايات المتحدة وبريطانيا مثلاً، لا تجدهم دائماً ممن أتقنوا سبل البحث أو حتى تعبوا في استيعاب المعارف ونيل الدرجة العلمية، وبعضهم لا يقل جهلاً عن يوم سافر «لتلقي العلم»! ونحن نتحدث عن البحث والدراسة والعلم ولا نقف عند مصطلحات مثل «المجتمع العلمي» أو «العقلية العلمية» أو «الثقافة العلمية» وغيرها. فحتى في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس والدراسات التاريخية وغيرها لا تقلُّ تخلفاً عن مجالات الصناعة.. والإلكترونياتَ ونحن لا نتصور دائماً مقدار الجهد العلمي ومقدار التجارب اللازمة لتطوير المنتجات. بل ربما تخاف بعض مجتمعاتنا من نتائج البحث العلمي العربي في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة والفلسفة والمنطق.. لماذا يا ناس ينجح أقل من عشرة ملايين إسرائيلي.. ويخفق 400 مليون عربي؟