يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال أسيرة حالة الخوف التي تلبستها منذ الحادي عشر من سبتمبر وحتى اليوم، لتضحي بذلك إمبراطورية من الخوف، وفي هذه الأجواء يضحي استحضار روح «الأخ الأكبر» الذي حدثنا عنها «جورج أورويل» في رائعته 1984 أمر واجب الوجود، سيما في ظل حالة من الانتقاص غير المسبوقة لمنظومة الحريات الشخصية في الداخل، الأمر الذي دعا الكثيرين للتساؤل. هل عبر الأميركيون إلى الأراضي «الأورويلية» بالفعل؟ وسط الصخب والضوضاء العالية لإشكاليات الرئيس دونالد ترامب سيما معضلة «روسيا - غيت»، لم يلتفت العديد إلى الانتصار الذي حققه مجلس الشيوخ الأميركي عندما جدد قانون مراقبة الأجانب، والتجسس على المواطنين الأميركيين أنفسهم. أما مجلس النواب، فقد سبق وأقر القانون، بعدما رفض في وقت سابق تعديلاً على القانون، كان يفرض طلب إصدار مذكرة إذن من الدوائر الخاصة تسمح لأجهزة الاستخبارات بالتنصت على اتصالات الأميركيين الذين يجدون أنفسهم في قواعد بيانات لمراقبة الأجانب. يعن لنا أن نتساءل: وماذا عن موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب والبيت الأبيض من هذا القانون المخل بالحريات الشخصية، الذي يعزز جمهورية «أورويل» في الداخل الأميركي؟ مؤكد لم تكن الأحادية الأميركية التي ينتهجها ترامب لتمضي بعيداً، فقد أكد الرئيس وإدارته على معارضتهم اقتراحاً يحد بشكل كبير من مراقبة الأجانب، ويمنع التجسس على المواطنين الأميركيين. يذهب السيناتور «بول راند» أحد المطالبين بالتعديل، إلى أنه بحجة مراقبة الأجانب المشتبه بهم في احتمال قيامهم بعمل إرهابي، يمكن لأجهزة الاستخبارات الحصول بشكل غير قانوني على رسائل الأميركي، ما ينتهك التعديل الرابع للدستور الأميركي، الذي يحظر عمليات رصد التفتيش غير المعقولة. مخاوف السيناتور «راند» في واقع الحال قائمة منذ فترة طويلة على الأراضي الأميركية، وهذا عززه عميل وكالة الأمن القومي NSA المنشق إدوارد سنودن، منذ عام 2013، حين حدثنا عن برامج من نوعية «بريزم»، التي تحاول اعتراض وتحليل أي شكل من أشكال المكالمات والرسائل الإلكترونية في جميع أنحاء العالم. لا يزال الأميركيون غير قادرين على العبور إلى الثاني عشر من سبتمبر، فهوس «أيلول الأسود» بطبعته الأميركية لا يزال شاخصاً أمام أعينهم، عاملاً في عقولهم، وعليه سيبقى طويلاً الجدال القائم بين الأمن والحريات. حتى الساعة تمضي أجهزة الاستخبارات الأميركية في إطار القول إن مثل تلك البرامج التجسسية قد مكنت من منع العديد من الإرهابيين من زمن رجالات «القاعدة» إلى أوان «الدواعش» ومن لف لفهم، وإنْ كانت ترفض الكشف عن طبيعة تلك الهجمات وتواريخها وأعدادها وأماكنها عطفاً على القطاعات التي كانت تستهدفها، ما يجعل البعض يشكك في مصداقيتها، ويرى أنها لا تتمتع بموثوقية. ويأخذ دعاة الحرية اليوم داخل أروقة الكونجرس، وإنْ كانت أعدادهم لا تتجاوز أصابع اليدين على تلك الأجهزة وقوع أميركيين أبرياء في دائرة التنصت والتجسس ولو بشكل غير مقصود، ما يُعد في نهاية الأمر شأناً مخالفاً للدستور الأميركي الذي يضمن حرية المواطن، ويصون حرمته الشخصية. منذ الحادي عشر من سبتمبر ولا شك في ذلك، أسست القواعد «الأورويلية» حضورها في الداخل الأميركي، لا سيما أنها دمرت الحواجز الفاصلة بين وكالات الاستخبارات من جهة، وأجهزة إنفاذ القانون من جهة ثانية، وبات السؤال: هل أميركا أكثر أمناً وأماناً في ظل جمهورية الخوف والعيش على «الأراضي الأورويلية»؟ في مؤلفها «الحرب والإرهاب والديمقراطية» تذهب وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق مادلين أولبرايت إلى «أنه إذا كان الأميركيون عاجزين عن الخروج من مملكة الخوف، فسيضلون الطريق.. لن يثنيهم أي حليف أوروبي صديق عن مسلك الحرب، وبما أن الخوف يتعلق بالإدراك لا بالواقع، يستطيع الإرهابيون الفوز من دون إطلاق طلقة واحدة». ولعل النتيجة الحتمية المقطوع بها هي أن «أميركا الأورويلية» لن تضمن لمواطنيها عدم التعرض لهجمات جديدة أو مواجهة خلايا نائمة، أو نشوء وارتقاء تيارات يمينية من جماعات «الأنجلوساكسون» طالما بقيت روحها مزدوجة في داخلها، وتتعامل بفوقية غير مقبولة مع بقية دول العالم، الأصدقاء قبل الأعداء. لم يلتفت الرئيس ترامب، على سبيل المثال، إلى ما سطره أحد الرؤساء الأميركيين الذين يوصفون بالقياصرة الفعليين، وبلغوا لاحقاً مرحلة من العظمة. الرئيس «دوايت أيزينهاور»، حين نبه إلى الاعتراف بأن «لا سبيل إلى السلام من دون القانون، ولن يكون هناك قانون إذا استحضرنا قانوناً للسلوك الدولي خاصاً بالذين يعارضوننا، وقانون آخر خاص بأصدقائنا. كان ذلك في خطاب رئاسي بث عبر الإذاعة الأميركية الوطنية في 31 أكتوبر عام 1956. وبالقدر نفسه من الصراع حول ثنائية الأمن والحرية، وبالتوازي معها تسير إشكالية أميركا زعيمة العالم أم رئيسته، وأغلب الظن أنها كانت الزعيمة والمدينة فوق جبل حينما كانت مثالاً لأراضي الحريات، وما يتبعها من تحقيق للحلم الأميركي في أجواء الديمقراطية وقبول الآخر، والتعايش الإنساني الخلاق. أما اليوم فأميركا بحسب ترامب تسعى لأن تكون رئيسة العالم التي تأمر فتطاع فحسب. «أميركا أولاً» في براجماتية غير مستنيرة شكلاً وموضوعاً، وعليه فهي لا تريد ولا ترغب في تغيير العالم، بل في بقائه على ما هو عليه كي تتمكن لاحقاً من تحقيق حلم السيطرة لمائة عام بحسب استراتيجية القرن لـ«المحافظين الجدد». أميركا «الأورويلية» هذه الأيام هل تشابه روما قبل سقوطها؟ إلى قراءة أخرى بإذن الله. إميل أمين* *كاتب مصري