المهندس هشام لا ينقصه شيء، هو مهندس مدني وعنده عائلة ومرتب جيد وحياة مستقرة في بلد لا يوصف إلا كأنه قطعة من الجنة: المغرب، حتى كان ذلك اليوم الذي استمع فيه إلى خطاب ابن لادن وهو يحرض الناس على قتل كل أميركي مورداً نصوصاً دينية في غير سياقها! وهكذا أصبح كل أميركي سائحاً كان أو زائراً أو عاملًا في أي بلد مسلم هدفاً للقتل في عيون الإرهابيين. واستخدام القوة المسلحة ليس وظيفة فرد أو حزب أو مجموعة، ولو كانت تصلي الخمس، وتقوم الليل، وتحج كل عام، بل هي وظيفة الدولة وحدها دون غيرها، حين ترى أن رفع الظلم لا يتم إلا باستخدام القوة المسلحة. وهذا موضوع قائم بذاته، فالجهاد هو دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان. وأما ذلك المهندس فقد استمع لكلمات ابن لادن فقال عليَّ الاستجابة، وبدأ بتحضير عبوة ناسفة! وهكذا وبخبرة مهندس وبطرق بدائية اخترع قنبلة يمكن تفجيرها بصاعق. وبقي عليه أن يبحث عن «الكفار» في المغرب! ولأن المغرب بلد سياحي تربص الرجل بقافلة سياح أميركيين في مدينة مكناس، حتى كان ذلك اليوم الذي حمل فيه الموت وجلس ينتظر خروج السياح الأميركيين إلى الباص. وحين جلس على مقعد في المنطقة لمح وجود عائلة مغربية، أم وطفلها بجنبه على المقعد. قال لا عليَّ الابتعاد عن هؤلاء. ثم جاء القدر حين التف حول منطقة الباص ليشعر في لحظة بأنه قد طار في الهواء، وفقد الوعي، ولم يشعر إلا وهو في المستشفى في مدينة الرباط. وعرف للفور أن العبوة انفجرت فيه فخسر ذراعه، ولم يصب أي سائح بأذى. وقال للمحققين فوراً إنه قد قام بعمله منفرداً وليس مرتبطاً بأية جهة. وهذه القصة روى لي نزيل سجون في المغرب أنها وقعت في أغسطس 2007. والعملية الانتحارية كلفت ذلك المهندس طيران ذراعه، فهو يعيش معاقاً بيد واحدة، وكلفته أيضاً حياته فهو محكوم بالمؤبد، حسبما رواها لي المغربي الذي زارني وحدثني كيف تغير في السجن، بعد أن اطلع على كتابي في النقد الذاتي «ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية». كان عجبي مضاعفاً من قصة الرجل في مكناس، ثم كيف تغير هذا الشاب مع أنه حمل حزمة كافية من أفكار التطرف، فعرفت أن مفتاح التغيير لهؤلاء الشباب ليس العلاج الجزئي وحده، كما يعالج انفجار الزائدة الدودية بالمسكنات. وهو ما نمسيه نحن في الطب بالمعالجة العرضية، والمعالجة السببية. فحين يصاب المريض بارتفاع الحرارة بنوافض من وراء مرض الملاريا يجب أن يعالج سبب المرض وهو الوحدات الإمراضية في الملاريا، التي تدخل الكريات الحمراء فتفجرها، وتسبب نوبات مخيفة من الارتجاج وارتفاع درجة الحرارة بشكل كبير. وفي هذه الحالة تجب معالجة السبب بمادة «الكينين» والسيطرة على ارتفاع درجة الحرارة بأي وسيلة خوفاً على الدماغ من الأذية، وهنا تمتزج المعالجة العرضية بالسببية، وهذا ما يجب فهمه لمعالجة حالات الإرهاب والتطرف الديني. وهو ما فعله كتابي في عقلية شاب خرج من السجن، وقد رمى الأصفاد من يديه، والأغلال من عقله. وقد روى لي هذا الشاب تجربته مع «داعش» في تونس، وكيف خطب الجمعة، فلما اختلف معهم هموا به، وجعلوا أيديهم في فمه، ومنعوه من الخطابة حتى خاف على نفسه من التهلكة. قال لي: أصناف هؤلاء عجيبة ومتعددة من «سلفية جهادية» و«قاعدة» و«داعش»، ثم هناك من داخل «داعش» نفسها من كفّر «داعش». وقال بلغ الأمر بالبعض، أنهم كفروا الكل، حكومات وشعوباً وحركات إسلامية وصولًا إلى الظواهري أبي التكفير، وهكذا فهذا السلاح يتمادى من رحلة الفكر بالتكفير، وصولًا إلى القتل وسفك الدماء، كما كانت قصة الشاب المهندس التي بسطنا هنا طرفاً من تفاصيلها المريرة.