يعاني ما بات يُعرف بـ«أزمة الشرق الأوسط»، أي النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، أزمة، بل معضلة وجودية. فإذ يتأدى عن سياسات التمدد الاستيطاني الإسرائيلي قضم لاحتمال قيام دولة فلسطينية، بسبب قضم الأرض نفسها وتفتيتها، تعيش الأطراف المعنية كلها اختلالات بنيوية خطيرة: فالإسرائيليّون، وقد قضوا عملياً على مبدأ الدولتين، سيجدون أنفسهم عاجلاً أو آجلاً مضطرين إلى بتّ أوضاع الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال. وغني عن القول إن تل أبيب لن تقبل بأي حل يقوم على مبدأ الدولة الواحدة التي يتساوى سكانها في الحقوق والواجبات بمعزل عن قوميّتهم وديانتهم. فهذا ما تحول دونه الرغبة في إبقاء الرجحان الكاسح للون اليهودي على تركيبة البلد. ورغبةٌ كهذه إنّما عززتها السنوات الأخيرة الماضية بما أثارته من مخاوف أفضى إليها تفجر الهويات والنزاعات الدينية والطائفية في المنطقة. أما إذا قبلت إسرائيل بدولة واحدة في الشكل، تحكمها علاقة من التمييز العنصري على غرار جنوب أفريقيا سابقاً، فهذا كفيل بإعدام سائر الادّعاءات الصهيونية عن الدولة العبرية بوصفها قلعة ضد العنصرية لأنها ناشئة عن الاضطهاد العنصري للنازيين. يضاف إلى ذلك أن الانزياح الإسرائيلي المتعاظم في العقود الثلاثة الماضية نحو اليمين، بشقيه القومي والديني، يدفع أيضاً في وجهة الانسداد هذه. والفلسطينيون أيضاً في مأزق لا يقل ضخامة. فهم يعرفون، بغض النظر عن خطابية بعض الأطراف والفصائل الراديكالية، أن طريق الكفاح المسلح، أكان من الداخل أو من الخارج، مسدود تماماً، وأن الانتفاضات المسلحة لن تجدي في مواجهة آلة البطش الإسرائيلية. ولكنهم يعرفون أيضاً أن الطريق التفاوضي الذي شُق في مدريد عام 1991 ثم في أوسلو عام 1993 قد سُد بدوره، فيما يوالي الاستيطان قضم الأرض. وإذا كانت هذه المعطيات تجيز للبعض طرح السؤال حول جدوى بقاء السلطة الفلسطينية في رام الله، فأسوأ من ذلك سيكون حل السلطة هذه ووقف التنسيق الأمني مع الإسرائيليين. ذاك أن خطوات كهذه سترتب آثاراً خطيرة، أمنياً وسياسياً واقتصادياً، على الفلسطينيين جميعاً. وفي الآن نفسه، يبدو العالم مأزوماً أيضاً. فقد كانت القيادات الفلسطينية على صواب حين أعلنت نهاية الوساطة العادلة والنزيهة للولايات المتحدة الأميركية، بعد القرار الأخرق للرئيس دونالد ترامب باعتبار مدينة القدس عاصمة لإسرائيل. ولكن هذا التطور لا يحل المشكلة بقدر ما يفاقمها. ذاك أن الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي يملك، بمعزل عن إداراتها، القدرة على ممارسة الضغط على إسرائيل بما يؤدي إلى إحداث تغيير إيجابي ما. وهذا ما حصل مع إدارتي جيمي كارتر إبان التفاوض على كامب ديفيد المصري- الإسرائيلي، وبيل كلينتون في ما خصّ اتفاقية أوسلو في 1993. وهذا كي لا نذكّر بإدارة دوايت أيزنهاور وموقفها الذي أجبر الإسرائيليين في 1956 على الانسحاب من مصر. فمن الذي ينوب اليوم مناب الدور الأميركي؟ الأوروبيون، من دون شك، يملكون مثل هذه الرغبة، ولاسيما أنهم يدفعون التكلفة المالية الأكبر لسلام أوسلو ولما نجم عنه من سلطة ومؤسسات على أنواعها. بيد أن الأوروبيين، وكما ظهر في غير جبهة وفي أكثر من مناسبة، لا يملكون القدرة التي تتيح لهم أداء دور كهذا. أما روسيا التي شرعت في ملء بعض الفجوات التي خلفها الانكفاء الأميركي، فتملك علاقات جيدة بالإسرائيليين كما بالفلسطينيين. ومع هذا فهي تشارك الأوروبيين ضعفهم الذي يردع عن أدوار في هذا الحجم. وبطبيعة الحال فالموقع السياسي للصين لا يزال متخلفاً جداً عن الموقع الاقتصادي الذي باتت تحتله على نطاق دولي. وقصارى القول إنّ الأبواب جميعاً موصدة تبحث عمّن يفتحها. فمن أين يأتي المبادرون؟ ---------------- * محلل سياسي- لندن