ما زال قرار الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي «البريكسيت» هو عنوان الجدل الدائر على ضفتي بحر المانش (القنال الإنجليزي)، فيما يتواصل تباعاً صدور الكتب التي تقارب خلفيات وأبعاد وتداعيات هذا الخروج، من زوايا تاريخية وثقافية وسياسية، واقتصادية. وضمن هذا الزخم من المؤلفات يأتي كتاب الصحفي سيرج أندرلينج: «إنجلترا: البريكسيت والنتائج» الصادر في شهر نوفمبر الماضي، ليركز بشكل خاص على الخلفيات الثقافية والتاريخية التي تجعل الإنجليز نزاعين بطبعهم لأخذ مسافة أمان سياسي واقتصادي من دول أوروبا القارية، وخاصة الاتحاد الأوروبي، الذي يرى كثير من الإنجليز أن بيروقراطيته المتنفذة حولت مع مرور الوقت الشراكة في التجارة إلى نوع من الشراكة في السيادة، وذلك بفرضها قوانين ومعايير أوروبية في كل شيء، وتدخلها في كثير من تفاصيل الشأن العام، المعتاد في العلاقات الدولية تولي الحكومات الوطنية أمر البت فيها. ويرى الكاتب أن قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي تكشف عنه استفتاء 23 يونيو 2016 عادت فيه هواجس التاريخ الإنجليزي في أصعب تجلياتها، وقد عبرت إنجلترا خلاله عن نزوع دفين للتميز والحفاظ على الخصوصية التاريخية والسياسية، يصعب تجاوزه، حتى على رغم كل ما في المشروع الأوروبي من وعود. ولكن قرار الخروج لئن كان معبراً عن مزاج عام، في إنجلترا، فلن يكون طبعاً مجانياً، كما أنه يطرح الكثير من الأسئلة حول المسير والمصير بالنسبة للمملكة المتحدة ككل وليس إنجلترا حدها فقط. ومن ذلك سؤال مستقبل الوحدة، وكيفية إدارة التعدد والاختلاف في المزاج تجاه البر الأوروبي، وتنوع مستويات الشراكات معه أيضاً وهي أمور تختلف بشكل جذري بين مكونات المملكة التي سعى بعضها من قبل للانفصال، وما زال بعض آخر يستبطن هو أيضاً ذات النزوع، بدرجات قد يزيد الشعور بها أو يقل، بحسب ما قد يكون عليه الحال. هذا فضلاً عن عبء التداعيات والنتائج الثقيلة المتوقع ترتبها أيضاً على نوعية وطبيعة إدارة كيفية الخروج نفسها، ففي حال الخروج الصلب الصعب، بشكل خاص، سيكون على بريطانيا دفع ثمن باهظ كفاتورة طلاق للشركاء الأوروبيين السابقين، وهو ما ستكون له نتائج اقتصادية مؤلمة، هذا فضلاً عن أثر الخروج أيضاً على مستقبل العلاقات التجارية مع دول الاتحاد القريبة، في ظل بعد الشقة مع أي شركاء اقتصاديين كبار آخرين محتملين كبديل في المستقبلَين القريب والبعيد. ويرى الكاتب أن الحنين الإمبراطوري الذي لا يكاد يفارق بريطانيا إن كان هو ما دفعها لإرادة تأكيد استقلال قرارها، والتخفف من أعباء الشراكة مع أوروبا بدولها المثقلة بالمشاكل الاقتصادية، إلا أنه أيضاً لا يكفي وحده كتعويض، لأن عملية الارتماء في مباهج العولمة وشراكاتها المفتوحة قد لا تحمل لبريطانيا أيضاً ذات التفرد والتغريد خارج السرب، فللشراكات البينية والعالمية المفتوحة، قواعدُ لعبتها هي أيضاً، والتزاماتها التي قد لا تصب بالضرورة دائماً في صالح لندن. وبعبارة أخرى فإن إدارة شؤون الدول في عالم شديد الترابط والتعاون لابد لها من أساس من التضامن في نظام إقليمي يقوي مواقف الشركاء قبل الاندفاع للارتماء في بحر العولمة على صعيد عالمي. ومن حق الإنجليزي طبعاً أن يؤكد على هويته وذاته الإنجليزية، ويفكر كإنجليزي، ولكن إنجلترا أيضاً ليست مجرد فريق كرة قدم أو فريق «ريجبي»، وإنما هي بلد كبير له مصالحه وهويته العالمية ضمن النظام الدولي، وهذا لا يمكن الانفكاك منه، بأي حال. ومن هنا فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي تسير الآن على طريق استكمال إجراءاته يقتضي ليس فقط إدارة ذكية وحذرة للعملية نفسها لإكمالها بأقل الخسائر وأكثر المكاسب الممكنة، وإنما أيضاً التفكير في كيفية تدبر أمور البلاد بعد ذلك منفردة في عالم الأسواق والهويات والشراكات المفتوحة، وفي مواجهة شركاء محتملين ينطلقون من مواقف اقتصادية أقوى بكثير مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي ككتلة، هذا فضلاً عن ضرورة توخي الحذر في إدارة التنوع في الداخل أيضاً لضمان استمرار وحدة مكونات المملكة المتحدة ذاتها. وضمن هذه المعادلة المعقدة بعناصرها الداخلية والخارجية سيتعين على بريطانيا الإبحار منفردة في عالم الغد في فضاءات مليئة بالعواصف والغيوم، وفي اتجاه غير معلوم. حسن ولد المختار الكتاب: إنجلترا: البريكسيت والنتائج المؤلف: سيرج آندرلينج الناشر: نيفيكاتا تاريخ النشر: 2017