يشغل الحديث عن الجيوش العربية ودورها على الصعيدين المحلي والإقليمي حيزاً كبيراً من اهتمامات المراقبين للشأن العام العربي منذ عام 2010، أي منذ قيام الثورة التونسية التي أدت إلى تغيير نظام الحكم هناك ثم في دول عربية أخرى. ومع مرور الوقت تحول ذلك الحديث إلى موقف سياسي من بعض المعارضات العربية وكثير من القوى التي تتخذ العنف أسلوباً ومنهجاً. وساعدت وسائل الإعلام على توفير مناخ عام لشن حروب متواصلة تستهدف أركان الدولة الوطنية قوامها التشكيك في وطنية الجيوش وقادتها، ضمن محاولات منظمة لتشويه صورة الجيوش العربية وثنيها عن دورها في حماية كيانات الدول الوطنية والذود عن مرتكزات عقدها الاجتماعي المؤسس. وفي كتابه «الجيوش العربية والدولة الوطنية»، يناقش الباحث والكاتب الصحفي خالد عمر بن ققه العلاقة بين الجيوش من حيث هي مؤسسات منظمة حامية للأوطان ومدافعة عن السيادة، وبين الدولة العربية العصرية ككيان قائم على ميراث تاريخي أو حركة تحرر وطني أو عقد اجتماعي يستصحب ذلك كله معاً. وقد اختار المؤلف، وعن وعي منهجي، أن يمنح في عنوان كتابه أسبقيةً للجيوش على الدول، «لأن دولنا العربية المعاصرة، وهي لم تكن كذلك قبل عقود من الزمن، وليدة إما عمل عسكري منظم لجماعات جهادية مقاتلة ضد المستعمر، تحولت مع الوقت إلى جيوش نظامية، وإما هي نتاج فكر مقاوم، بشكل متواصل أو منقطع، وفي الحالتين فقد أنشأت الجيوش العربية دولاً، ما كان لها أن تحقق استقلالها لولا استعمال القوة». وبناءً على تلك الخلفية فإن الجيوش العربية التي حررت دولها من الاستعمار، أو التي أُنشئت بعد ذلك، كما يعتقد المؤلف، تعد صاحبة حق في اتخاذ القرارات المصيرية طالما أنها تسهم في التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد تحولت إلى قوة قومية قادرة على تحقيق النصر، إذا ما خلصت النيات وصحت الضمائر، على غرار ما جرى في حرب أكتوبر 1973. ويستعرض المؤلف طائفة من الانتقادات الموجهة للجيوش العربية ولدورها في الحياة العامة، متفحصاً مصادرها وخلفياتها ودوافعها، ومفنداً في الوقت ذاته ما تروج له من صور وتوصيفات ومقاربات سلبية للغاية حول الدور الوطني للمؤسسات العسكرية. وكما يلاحظ المؤلف فإن كثيراً من المعارضات السياسية العربية تشترك مع تيار الإسلام السياسي وقوى الضغط الخارجية في اتهام الجيوش بالسيطرة على نظم الحكم، وفي التشكيك في نزاهة قادة هذه الجيوش، ورميها بتُهَمِ العجز والتقصير والفساد.. وكل ذلك بغية تفكيك العلاقة بين العسكري والمدني سعياً لإضعافهما معاً ولإضعاف مناعة الدولة الوطنية العربية ذاتها. ويرد بن ققه على بعض الانتقادات ضد تسلح وتقوية الجيوش العربية، متسائلاً حول علاقة تسليح الجيوش بدورها داخل الدول نفسها؟ ويلاحظ في مستهل رده أن الحديث في بعض وسائل الإعلام عن ميزانيات الجيوش العربية كثيراً ما يأتي مقروناً بتناول موضوع الفساد، لكن مع تجاهل الحقائق الواضحة حول توجه العالم نحو العسكرة، مما يتطلب دعماً مالياً كبيراً للجيوش كضامن وحامي للسيادة الوطنية ولأي تجربة اقتصادية وتنموية تثير مطامع الآخر وتحرك مشاعر غيرته. ويعتقد الكاتب أن معظم الجيوش العربية، خاصة في الدول ذات الكثافة السكانية العالية، تواجه ذات المشكلات التي تواجهها الشعوب العربية من معاناة حياتية في مجالات الصحة والإسكان والمواصلات وضعف الدخل، ما يعني أنها لا تشكل طبقة متميزة تتمتع بأفضلية خاصة، خلافاً لما تروج له بعض النخب المثقفة والمعارضات العربية والجماعات الدينية السياسية والإرهابية، في محاولة منها لإحداث قطيعة بين الجيوش العربية وشعوبها ولتفكيك العلاقة بين المدني والعسكري في الحياة العامة لهذه الدول. إن ذلك الاستهداف بمختلف صوره، هو محاولة تقوم بها أطراف محلية وإقليمية ودولية، لإبعاد الجيوش العربية عن دورها الوطني، وهو ما ينتقده المؤلف مستشهداً بملاحظة لأحد باحثي مركز كارنيجي للشرق الأوسط في بيروت، يقول فيها: «إن مقدرة الجزائر على محاربة الإرهاب، إنما تقوم على جيشها القوي». وعملياً فإن الحرب ضد الجيوش العربية، وعلى جبهات عدة ولأهداف معروفة، وعلى أيدي أطراف مختلفة بعضها ظاهر وبعضها مستتر، كما يقول المؤلف، تشكل جانباً من فتنة مجتمعية تظهر وتختفي طبقاً لعاملين: الأول سلطة الدولة قوة أو ضعفاً، والثاني الوضع الاقتصادي نمواً أو تراجعاً. وهنا يتحدث المؤلف عن أربع جبهات تناصب الجيوش الوطنية العربية عداءً واضحاً: أولها القوى الأيديولوجية المعرفية التي تريد «تحقيق ديمقراطية حقيقية بمعزل عن دور العسكر»، وتحت هذا الشعار ينتهي بها الأمر في الغالب إلى التشكيك في الجيش وإلى تخوينه وتشويه صورته.. وثانيها المعارضة السياسية (باستثناء تيار الإسلام السياسي)، والتي تقترب من الجيوش وتبتعد منها بقدر دعم هذه الأخيرة لطموحاتها السياسية، وهي لا تختلف في محاولاتها توظيف الجيش عن الأحزاب والأنظمة الحاكمة رغم حملاتها الإعلامية لتشويهه والتشنيع عليه. وتتمثل الجبهة الثالثة في «التيار الإسلامي» (بجناحيه السياسي والمسلح) والذي يشكل خطراً على الجيوش العربية، إذ يعتبر أن كل الآخرين غير المنضوين تحت لوائه، بمن فيهم قادة وجنود الجيوش، هم ممن «تستعصي هدايتهم». وما فتئ «الإخوان المسلمون» يعادون الجيوش العربية على خلفية صراعهم مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. وأخيراً تتمثل الجبهة الرابعة في القوى الخارجية، والتي طالما حاولت إثبات فشل الدولة الوطنية وجيشها في محاربة الإرهاب، واستغلال المسألة الديمقراطية لدعم معارضة ذات علاقة وطيدة معها. ورغم ذلك فالجيوش العربية اليوم، كما يوضح المؤلف، في أزهى عصورها، لأنها تحارب على كل الجبهات تأميناً لبقاء الدولة الوطنية موحدةً ومستقرةً، وهي على الجبهة الداخلية تحديداً في تلاحم تام مع الشعب. وفي كل الميادين العربية نشهد حضوراً للجيوش بمطلب شعبي، لا لأنها متسمة بالانضباط وحاملة للقوة فحسب، بل أيضاً لأنها تتميز بالوطنية والصدقية والتضحية والوفاء. لذلك لم تعد الجيوش العربية تكتفي بممارسة دورها التقليدي، وإنما أضحت اليوم تنوب عن كثير من مؤسسات الدولة في البلاد العربية. صحيح أن مهامها الجديدة صعبة للغاية، بسبب تكالب القوى المحلية والإقليمية والعالمية عليها، لكنها في تفاعلها مع الشعوب تؤدي أدوارها على نحو حمى ويحمي بلاداً عربية عديدة من الفوضى والفتن الداخلية المقرونة بالتدخل العسكري الخارجي. وأخيراً، فإن الجيوش العربية في الوقت الحالي، وفقاً لبن ققه، معنية بثلاث مسائل رئيسية؛ الأولى تتعلق بدورها كداعم للأنظمة الحاكمة، حمايةً للأوطان وتحقيقاً للشرعية. والثانية أن حبها لأوطانها يحمِّلها أحياناً فوق طاقتها ويحولها إلى فريق أمني لإطفاء النيران المشتعلة جرّاء أخطاء السياسيين. أما المسألة الثالثة والأخيرة فهي دفاع الجيوش العربية عن استقرار أوطانها انطلاقاً من التعاون المشترك فيما بينها وعبر إيجاد مقاربة موحدة لقراءة المشهد العربي العام. محمد ولد المنى الكتاب: الجيوش العربية والدولة الوطنية المؤلف: خالد عمر بن ققه الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2018