لماذا صوّت الأميركيون لمصلحة الرئيس دونالد ترامب؟ ولماذا صوّت الإنجليز لمصلحة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي؟ الجواب واحد على السؤالين كما أثبتت دراسة اجتماعية نشرها الباحث الاجتماعي السويدي الدكتور جوان نوربرغ في كتابه الجديد. واسم الكتاب «التقدم: عشرة أسباب للتطلع إلى المستقبل». وتتجاوز الدراسة كل الأسباب السياسية والعمليات الانتخابية وما يرافقها. وتغوص في الأسباب الثقافية والتربوية. وفيما يتعلق بالولايات المتحدة، على سبيل المثال، تبين الدراسة أن 81 في المئة من مؤيدي ترامب يعتقدون أن مستوى المعيشة قبل 50 عاماً كان أفضل مما هو عليه الآن. وفيما يتعلق ببريطانيا تبين الدراسة أيضاً أن 61 في المئة من الذين صوّتوا بـ«نعم» للانسحاب من الاتحاد الأوروبي يخشون من أن مستقبل أولادهم سيكون أسوأ مما كان عليه حال آباؤهم. وتكشف الدراسة عن خطأ هذه المعتقدات، وتبيّن أنها تقوم على ثقافة عامة يحتل فيها الاعتقاد السلبي (والحدث السلبي) موقعاً متقدماً ومؤثراً في تكوين اعتقادات وقناعات عامة الناس. ويقدم المؤلف مثلاً يقول فيه إن تعرض طائرة إلى حادث ما، حتى ولو كان مجرد هبوط اضطراري سليم، يحتل مواقع بارزة في أجهزة الإعلام، غير أن هبوط 40 مليون طائرة بسلام في العام لا يثير أي اهتمام. وكذلك الأمر بالنسبة لأحداث الكوارث الطبيعية والمجاعات الإنسانية، فهي تستقطب الاهتمام على حساب الإنجازات المتقدمة التي تتواصل كل يوم. فقبل 150 سنة مثلاً، كانت السويد أشد فقراً مما عليه اليوم دول جنوب الصحراء الإفريقية. ففي تلك الفترة عرفت السويد المجاعة، إلا أنها اليوم تعتبر من أكثر الدول تقدماً في الرعاية الاجتماعية. وحتى دول مجلس التعاون الخليجي، أين كانت قبل مائة عام وأين أصبحت اليوم؟ ويقدم المؤلف في بحثه إحصائية مثيرة للاهتمام تقول إنه في عام 1820 كان 94 في المئة من البشرية يعيشون على دخل يقل عن دولارين في اليوم (بالقيمة الحالية)، غير أن هذه النسبة تراجعت إلى 37 في المئة في عام 1990. وواصلت تراجعها حتى وصلت في عام 2015 إلى 10 في المئة فقط. ويلقي البحث الضوء على حقيقة تاريخية مهمة هي أن المجتمعات كلها، بدأت فقيرة ثم تطورت مع الوقت ورفعت من مستويات معيشتها. وتبين الدراسة أن الناس في مختلف هذه المجتمعات لم تتحسن أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية فقط، ولكن تحسنت أيضاً أوضاعها الصحية، وارتفعت معدلات الحياة نتيجة التقدم الطبي في الوقاية من الأمراض وفي الرعاية والمعالجة الصحية. ويضرب مثلاً على ذلك، فيقول إنه عندما اجتاح آسيا مرض إنفلونزا الطيور وتحول إلى وباء عالمي خطير في عام 2009، انكبّ العلماء في مختبراتهم على دراسة التكوين الجيني لفيروس المرض، وتمكنوا من إنتاج مصل مضاد له وضع خلال ستة أشهر فقط في خدمة الناس جميعاً. وقد أدى ذلك إلى القضاء على الوباء القاتل. وكذلك الأمر بالنسبة لوباء إيبولا الذي انتشر في بعض دول أفريقيا الغربية وحصد الآلاف من الضحايا قبل أن يتمكن الأطباء من اكتشاف مصل مضاد له. أما في القرون الوسطى فعندما انتشر مرض الطاعون، وكان الطب متأخراً في ذلك الوقت، فقد قضى المرض على عشرات الملايين من الأوروبيين قبل أن يتراجع وينحسر. ولا تنفي الدراسة وجود مجتمعات فقيرة خاصة في إفريقيا وفي بعض الدول الآسيوية والأميركية الجنوبية، ولكنها تلقي الضوء على المكتشفات العلمية الحديثة لتعقيم المياه، ولإنتاج الطاقة الكهربائية من الشمس والهواء مما يساعد على تسريع خطوات التحرر من المرض ومن الفقر. وتقول الدراسة إن قصر الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (قصر فرساي) كان جوهرة القصور في القرن الثامن عشر، ولكن لم تكن فيه مراحيض. أما اليوم فإن 68 في المئة من سكان العالم (الذين يزيد عددهم على 7 مليارات ونصف المليار نسمة) يتمتعون بالحمامات والمراحيض الصحية بعد أن كانت هذه التجهيزات متوفرة لحوالي 24 في المئة فقط من الناس حتى عام 1980. وحتى ظاهرة الحروب التي عرفتها الإنسانية على مدى تاريخها الطويل، تراجعت هي أيضاً عما كانت عليه. وتقدم الدراسة رقماً مثيراً للاهتمام، فتقول إن المجتمع الإنساني عندما كان في مرحلة الصيد، كانت نسبة القتل فيه تزيد 500 مرة عما هي عليه في أوروبا في الوقت الحاضر. أما عالمياً فقد أصبحت الحروب اقل عدداً وأقصر مدى مما كانت عليه في الجيل السابق. وعلى رغم أن العمليات الإرهابية تشغل العالم اليوم من أقصاه إلى أقصاه، فإن الدراسة تؤكد أن ثمة مبالغات في تصويرها وفي عدد ضحاياها على رغم بشاعتها. وتقول الدراسة أيضاً إن الإنسان الأوروبي اليوم معرّض عشر مرات أكثر للموت في حادث نتيجة تدحرجه عن الدرج من الموت في حادث إرهابي! وتشير إلى إحصائية أجريت في بريطانيا تؤكد أن الطفل يتعرض في حضانات الأطفال إلى ثقافة العنف 11 مرة أكثر مما يتعرض له من خلال البرامج التلفزيونية. ونعود إلى السؤال الذي بدأنا به وهو: لماذا صوّت الأميركيون لصالح ترامب. ولماذا صوّت الإنجليز لصالح الانسحاب من أوروبا؟ الجواب هو أن المجتمعين الأميركي والبريطاني يحتفظان بنظرة تشاؤمية للمستقبل.. وبنظرة نرجسية إلى الماضي. ويؤكد ذلك اختبار أجري في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، ويسأل: هل إن الفقر في العالم يتحسن أم يتفاقم؟ وقد أجاب 95 في المئة من الأميركيين و71 في المئة من البريطانيين بأن الفقر يزداد تفاقماً. وذلك خلافاً للإحصاءات العالمية الرسمية التي تؤكد العكس تماماً كما بينت دراسة العالِم السويدي نوربرغ.