أخطر ما في جدلية تيارات الإسلام السياسية والأصولية المتزمتة والمتطرفة في الفهم المعاصر هو في وضع نفسها قبل الإسلام وليس بعده، حين تشعر من أدبياتها وكأنها هي الإسلام. وهو ما يعرقل حركة الإسلام الذي كسب ميزة العِندية من الله سبحانه وهو القائل في محكم كتابه «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»، وأما ما عند الناس ومعتنقيه من شتى المذاهب الفكرية فهي أفهام وتطبيقات قد تختلط على العوام وأوهام قد تتصادم مع الواقع، خاصة عندما يعاد إنتاج الماضي في الحاضر والمستقبل، حتى على مستوى المفاهيم التي هي بحاجة إلى دراسات معمقة لفك ارتباطها بأسقام العقول. وهو عين ما ذهبت إليه امرأة فرعون عندما اختارت العِندية على الجنة في قوله تعالى «رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» ولم تطلب بيتاً في الجنة عنده، وقد فازت امرأة فرعون بذلك ولم تفز امرأة نوح. والفرق شاسع وهو الذي ألهم رابعة العدوية في مقولتها الشهيرة في فلسفة عبادتها لله عندما ذكرت بأنها تعبد الله ليس خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته وإنما شوقاً لعِنْديته، وهو نقاء وصفاء خالص في العبودية لذات الله سبحانه، وهو ما أقرته السماوات والأرض عندما «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ» لا كارهتين ولا مرغمتين. وقد التزمت مريم العذراء في الرد على سؤال كفيلها زكريا عليه السلام «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» وليس هناك سوق ولا بيع ولا شراء، بل هو من عند الله، فكان رد فعل زكريا «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ...» يريد الذرية من عند الله، مع وجود الأسباب البشرية المانعة من العقم وكبر السن، ولكن مع ذلك يرزق بيحيى من عند الله. فعندما تتحول تطبيقات هذه العِنْدية الباهرة إلى سلوك متحرك لمن رضى بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً، فإن المجال مفتوح له في الاستقاء من المصدر البشري الأول للتطبيق على الأرض وهو النبي الأعظم، صلى الله عليه وسلم، «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»، وقال تعالى «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» وكان قرآناً يمشي على الأرض، كما قالت عائشة رضي الله عنها. وهو ذات ما قاله يوسف في فتنة النساء «قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ » أي أحسن منزلتي وأكرمني. فالرسول هو الملهم لحركة الإسلام على الأرض بين الناس وهو الذي رفض مبدأ الاعتداء في الدعاء، وهو فقه يجهله الكثير ممن ينتمون أو ينضمون إلى الحركات التي تلبس رداء الإسلام وتلغي جوهره. عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «دخل أعرابي المسجد، فقال: «اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً» فلم يقبل المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا المنطق في الدعاء فقال: لقد حجرت واسعاً»، وهو ما يؤذي آذاننا من الحجارة التي ترمى من بعض المنابر بقَطْعِ الذراري والأنسال وتشتيت شمل أصحاب الديانات السماوية الأخرى، وعندما اشتدت عداوة قريش ومن وراءَها للنبي دعا «..اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون». لقد تحجر الإسلام في عقول مروجي العنف والإرهاب والتطرف وتجمد في سالف العصر. ونتابع الرواية، قال: «فما لبث أن بال في ناحية المسجد، فكأنهم عجلوا عليه، فنهاهم رسول الله ثم أمر بذنوب من ماء أو سجل من ماء، فأهريق عليه، ثم قال النبي: علموه، ويسروا ولا تعسروا» رواه الشافعي في مسنده، والبخاري في صحيحه وأبو داود في سننه. وهذا السلوك قد يكون مما اعتاد عليه الأعراب في ما مضى ولكن بعد مجيء الإسلام، هناك حضارة جديدة تبنى ويبنى المسلم من خلالها بالتعليم وليس بالتشديد عليه وقطع طريق الوصول إلى ربه. فَدَاءُ حركات الإسلام المسيس أنهم قطعوا طريق المجتمعات التي يعيشون فيها الموصلة إلى ربهم، وأوقفوها على جماعتهم بمختلف المسميات التي لا تعلو على الإسلام، بل الإسلام هو الأعلى، كما أنه القائل سبحانه «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى». ومن رحمة الله بإسلامه الذي لم يربط نصره بتصرفات بعض المسلمين المعوجة أمام الأمم، وهو أن الإسلام ذاته لم يتراجع انتشاره بالذات في الغرب حتى بعد الإطاحة بالأبراج في واشنطن، وذلك وفق الدراسات الغربية منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وحتى هذه الساعة فإن نسبة دخول الأميركان زادت 30% مقارنة بما قبل العملية الإرهابية الشائنة. وهو دليل قاطع بأن الإسلام ذاته لن يتأثر بقدر ما يخسر المسلمون أنفسهم مواضع أقدام ترفع من شأنهم بين الأمم، بدليل أن الذين يحاربون الإسلام ويعادونه في الفترة الأخيرة وخاصة في ألمانيا، ومنهم آرثر فاغنر وهو يرأس اللجنة التنفيذية لحزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، والمعروف بخطابه المناهض للمسلمين، يعلن عن اعتناقه للإسلام. وقال فاغنر الذي يبلغ من العمر 48 عاماً، ولا يزال عضواً بالحزب، لإحدى الصحف إنها «مسألة خاصة». وللعلم فإن هذا الحزب يشير على موقعه على شبكة الإنترنت إلى أن «الإسلام لا ينتمي لألمانيا». نقول صحيح لأنه ينتمي إلى الله مباشرة، والمسلمون لهم شرف الانتماء إليه وليس العكس، ففي السابق عاش موسى في كنف فرعون ويوسف الصديق في قصر العزيز، ولأن الإسلام دين الله الأخير للبشرية فكل يوم له معتنقون ولو عاشوا في جحر أشد الأحزاب تطرفاً ومعاداة له، أليس حقاً قاطعاً بأن «الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ».