للوهلة الأولى سيبدو عنوان المقال صادماً لكثيرين من القراء ممن عرفوا كوريا الجنوبية كبلد مزدهر، واقتصاد صاعد بقوة، وإدارة لا تترك شيئاً إلا وتخطط له بدقة، فالحقيقة التي باتت معروفة للجميع أن هذه البلاد استحقت بجدارة أن تُوصف بـ«معجزة القرن العشرين»، لأنها استطاعت خلال أقل من نصف قرن فقط أن تقفز من بلد زراعي فقير متوسط دخل الفرد فيه لا يتجاوز مائة دولار إلى ثامن أكبر قوة اقتصادية في العالم يتجاوز معدل دخل المواطن فيها 30 ألف دولار، أي بزيادة 300 بالمائة. وبطبيعة الحال، ما كان هذا ليتحقق لولا إرادة وتصميم السلطة السياسية، خصوصاً في عهد الرئيس الأسبق «بارك شونغ هي» بين عامي 1962 و1979 لإخراج البلاد من تداعيات الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، بوضع سياسات واستراتيجيات رشيدة بعيدة عن نوازع الثأر والانتقام من الجيران، بل والاسترشاد بما فعله هؤلاء الجيران، وخاصة المستعمر الياباني السابق، لجهة اللحاق بالأمم الصناعية المتقدمة. ومن جهة أخرى لم تكن لهكذا سياسات حكومية أن تأتي أُكلها وتنجح في تحقيق المراد لولا مؤازرة ودعم المواطن الكوري الجنوبي المعروف بثقافة الولاء والانتماء، والذي شمَّر عن سواعده للعمل، فصار يقضي في مصنعه ومعمله ومؤسسته ساعات أكثر من تلك التي يقضيها في بيته وبين أسرته. غير أن ما يشهده العالم من متغيرات اقتصادية اليوم جعلت كوريا الجنوبية من البلاد التي تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، خصوصاً في ظل الصعود الاقتصادي والسياسي المتنامي للصين، دعك من مماحكات نظام «كيم جونغ أون» الطائش في كوريا الشمالية التي تفرض على سيؤول تحصين نفسها عسكرياً ودفاعياً بضخ مزيد من الأموال في موازنتها الدفاعية، على أن مثل هذه التحديات ليست جديدة على هذه البلاد، فقد تعرضت لها من قبل، وتحديداً خلال الأزمة المالية العالمية في التسعينيات، التي نجحت في تجاوزها بالرؤى السديدة والخطط الحكيمة وتضافر جهود الدولة مع جهود مؤسساتها وشركاتها العملاقة. ورغم هذه الحقائق، فإن الإحصائيات المحلية والدولية تفيد بأن كوريا الجنوبية سوف تحقق في العام الجاري (2018) معدلات نمو لا تقل عن 3.2 بالمائة بسبب زيادات متوقعة في التصدير والاستهلاك المحلي وجذب الاستثمارات الأجنبية. وإذا كانت الزيادة المتوقعة في التصدير إلى الخارج مردها التقدم التكنولوجي المشهود للبلاد، والجاذب للاستثمارات، فإن الزيادة المتوقعة في الاستهلاك المحلي سوف تكون بسبب خطة حكومية لرفع الحد الأدنى للأجور والرواتب. وإذا ما عدنا للحديث عن موضوع البطالة، وهي ظاهرة لا يخلو منها أي مجتمع بغض النظر عن تصنيفه الاقتصادي (متقدماً أو نامياً)، نجد أنها بلغت مستوى 3.3 بالمائة عموماً لكنها ارتفعت في صفوف الشباب من الفئة العمرية (15 -30) لتصل حالياً 10 بالمائة تقريباً، وهذا الرقم هو الأسوأ منذ أن بدأت كوريا الجنوبية جمع البيانات حول البطالة، طبقاً لما أوردته مؤخراً وكالة «يونهاب» الرسمية للأنباء. ويجب هنا توخي الحذر عند الحديث عن مصطلح البطالة في هذه البلاد، لأن له مفهومين مختلفين: أحدهما يتعلق ببطالة الشباب المستعدين للعمل بصفة دائمة لكنهم لا يجدون من يتيح لهم فرص التوظيف، والآخر يتعلق بأولئك الشباب غير المتحمسين للعمل من خريجي الجامعات والمعاهد ممن يفضلون وظائف موسمية أو لفترات محددة بدلاً من وظائف دائمة، ويقال إن الفئة الأخيرة يبلغ تعدادها أكثر من مليون نسمة. وفي حين لا تستبعد حكومة الرئيس الحالي «موون جاي إن» (تولى السلطة في مايو 2017) هذه الفئة الأخيرة من اهتمامها، فإنها تركز على خلق الوظائف للفئة الأولى وفق استراتيجية بدأ العمل بها منذ العام المنصرم ومحورها زيادة الإنفاق الحكومي من أجل خلق ما لا يقل عن 230 ألف وظيفة جديدة في القطاع العام، وتشجيع الشركات الخاصة على التوسع في تعيين المزيد من الشباب مع تقديم دعم حكومي لها، علماً بأن الشركات الخاصة العاملة في قطاع الإنتاج الصناعي الموجه للتصدير بلغ عدد العاملين بها وفق إحصائيات عام 2017 نحو أربعة ملايين ونصف المليون عامل وموظف. بموازاة تلك الاستراتيجية، تعمل الحكومة الكورية الجنوبية على استخدام آلية الإعفاءات الضريبية لترغيب من اقتربوا من سن التقاعد على ترك وظائفهم لجيل الشباب، خصوصاً المبدعين والمبتكرين منهم ممن أنهوا دراستهم في الكليات التقنية العالية.