هل تنجح روسيا الرأسمالية في تحقيق أهدافها وترسيخ مصالحها في العالم العربي اليوم، أكثر بكثير مما حققت في زمن الاشتراكية؟ صحيح أن روسيا لا تزال تعتمد على الأوضاع المتوترة، والأنظمة المهمشة والمحاصرة كإيران وسوريا. ولكن روسيا أكثر بكثير من مجرد «عنصر شغب» في المنطقة، فهي كذلك صديقة لتركيا وإسرائيل، وهناك ما يقدمه الرئيس بوتين لأوروبا والولايات المتحدة.. وربما للعرب! الشعوب العربية مرهقة من فواتير ومستحقات «الربيع العربي» بعد سبع سنين عجاف. وتتحسر شرائح واسعة من الشعب في مصر وتونس وليبيا على الأنظمة الفردية، التي ثاروا عليها وقدموا التضحيات، حتى الرئيس «معمر القذافي»، الذي جلس كالصخرة كاتماً أنفاس الشعب الليبي على امتداد أربعين سنة، ولم يصدق أحد أن من الممكن زوال حكمه، الذي دمر بقراراته وسياساته أربعين عاماً من حياة البلاد في الماضي، وربما أربعين عاماً قادمة، هناك من يتباكى ويتحسر عليه، ويدعو إلى تنصيب نجله «سيف الإسلام» على كرسي الحكم لعله ينقذ البلاد. فأي مأساة أعمق من هذه تعيشها «الديمقراطية العربية»، وبأي وجه ستقابل هذه الدول والشعوب كلام المتشمتين ولوم اللائمين! تقول صحيفة «لوفيغارو»، ترجمة القبس: 22-12-2017، إنه في 2011، بعد الإطاحة بحسني مبارك في مصر، «شعرت روسيا بأنها تعرضت لخيانة من باريس ولندن اللتين أخذتا منها وعداً بالحياد، أثناء مشاركتهما في الضربة الجوية على ليبيا، التي أدت رغم قرارات الأمم المتحدة إلى سقوط القذافي الذي لطالما كان حليفاً اقتصادياً لموسكو». ولم يكن «الربيع العربي» ورداً ونسائم منعشة للرئيس «بوتين»، فقد تزامن هذا الربيع كذلك مع الحركات المناهضة له في الشارع الروسي. وتلتها الثورة الأوكرانية التي قادها المؤيدون لأوروبا على النظام المقرب من موسكو، ويقول بعض المحللين: إنه «مع أحداث الربيع العربي والصراع المسلح في سوريا والوضع في أوكرانيا، ظهرت تهديدات جديدة ذات ثقل بالنسبة إلى روسيا». يبدو أن الروس مثلنا يفضلون الزعيم على الرئيس، والسلطة القوية على المشاركة الديمقراطية، وعصفور الحكومة الذي باليد، على العصافير العشرة التي يعد بها الاقتصاد الحر وأنصار العولمة! ويتساءل البعض: هل روسيا ضرورية في المنطقة؟ تقول الروسية «مارينا بلينكايا»، المختصة بشؤون العالم العربي: «في هذه الأزمة تعد روسيا القوة الحقيقية التي تملك علاقات مع الجميع، ويمكن أن تلعب دور الوسيط مع جميع الفاعلين». وحول الوساطة، تتعاون موسكو بشكل كبير مع إيران من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار وحل سياسي في سوريا، بينما يقاطع الجميع طهران، كما تعاونت موسكو أيضاً مع الرياض من أجل توحيد الوفد الذي مثل المعارضة السورية في مفاوضات جنيف، كما أن موسكو تتقرب من قطر التي تقاطعها دبلوماسياً السعودية والإمارات في محاولة لتقريب وجهات النظر بين الدول الخليجية لحل الأزمة مع الدوحة». وتضيف بلينكايا: «ففي سبتمبر الماضي، وقعت روسيا مع الحكومة القطرية اتفاقية دفاعية، وتركيا المعارضة لدمشق بشدة تتعاون بشكل كبير أيضاً مع روسيا في إطار «الترويكا»، التي تضم أيضاً إيران من أجل وقف إطلاق النار. ففلاديمير بوتين التقى رجب طيب أردوغان 6 مرات، ويقول فلاديمير عيساييف المعرب المختص في معهد دول آسيا وأفريقيا: «تحترم دول الشرق الأوسط القوة، ولهذا السبب يحترموننا». ولكن ما قدرة روسيا على البقاء والمنافسة في المنطقة؟ يقول المحللون: «دخلت روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط بسبب الأزمة السورية، لكنها يمكن أن تفقد نفوذها وتأثيرها في المنطقة متى حل السلام، وعادت المياه إلى مجاريها». وتقول «لوفيغارو» في التحليل نفسه إلى «أن التوسع الشيعي الإيراني الذي تدعمه عسكرياً روسياً بشكل ضمني في سوريا، يُشكل مصدر قلق لموسكو، أما العنصر المزعج الثاني، فهو واشنطن». هل لروسيا عودة قوية إلى ليبيا، وبخاصة إن صعد نجم «سيف الإسلام القذافي»؟ يقول «عبدالمجيد المنصوري»، الذي كان رئيساً لـ«مجلس التنمية الاقتصادية» في ليبيا قبل 2011، عبر مقال في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية بعنوان: «سيف الإسلام.. هل يعود للمشهد الليبي؟»، «10-01-2018». «إن سيف الإسلام قرر الترشح للانتخابات الرئاسية، وأنا أرى فرصة كبيرة أمامه لأن كل القبائل الكبيرة تدعمه». وأضاف المنصوري: «إن الناس يشعرون بالإحباط، وحتى الأشخاص الذين كانوا ضد النظام القديم سيؤيدونه لأنه ليس عائداً لتمثيل النظام القديم، بل إنه آت بخطة من أجل مستقبل ليبيا». ويشير المحللون إلى عودة موالين للقذافي إلى الساحة السياسية، ويقولون إن عودتهم تكشف عن مدى الغضب العام من انعدام الأمن وتردي الأوضاع، كما يتخوفون من انتشار أتباع «داعش» عبر شمال أفريقيا.. «إن ليبيا تزداد تعقيداً والانفراج لا يبدو قريباً، فقد قسمت ليبيا بين عشرات المليشيات والإدارات المتنافسة في الشرق وفي طرابلس، والليبيون يصطفون لساعات خارج البنوك من أجل الحصول على مبالغ زهيدة». ويقول «وحيد جابو»، الذي يعمل بغرفة التجارة في طرابلس: «لقد فقدنا الثقة في كل الشخصيات السياسية في البرلمان، وفي الحكومتين، وفي المشرق والمغرب». وأضاف يقول: «إن الليبيين يعيشون اليوم في فقر، والبنوك فارغة، والناس غير قادرين على شراء الدواء أو الطعام أو أي شيء، كما أن ثمة نقصاً في البنزين، وانقطاعات في الكهرباء، وفي المياه، وانعدام أمن عام». «سيف الإسلام القذافي» البالغ من العمر 45 عاماً، الذي تلقى تعليمه في لندن، ليس على وجه الدقة «حمامة مسجد»، كما يقول المثل الكويتي. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال في حقه، متهمة إياه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال التمرد على والده، غير أنه لم يتم تسليمه للمحكمة أبداً. وربما إن وصل إلى الحكم سيكون في وضع مماثل للرئيس السوداني «عمر البشير» المطلوب من نفس المحكمة. وفي 2015 حكمت محكمة في طرابلس على «سيف الإسلام» بالإعدام بسبب جرائم ارتكبت إبان الثورة، ولكن في يونيو 2017 أعلن معتقلوه أنهم أفرجوا عنه. في الشارع الليبي، يشير مقال «الاتحاد»، السلطة «تعود لزعماء المليشيات المحلية والمهربين وزعماء السوق السوداء، وهو ما يدفع الليبيين للتفكير في خيارات كان من المستحيل تخيلها من قبل». شعوب «الربيع العربي» المحبطة، التي أتلف «الإسلام السياسي» مكاسبها الغالية، تبحث اليوم عن أي «مستبد عادل» .. ينقذ بقايا حلمها!