عدة تساؤلات حائرة خيمت على سماوات الولايات المتحدة الأميركية في الأسبوعين الماضيين وبخاصة بعد صدور كتاب «نار وغضب» لمؤلفه «مايكل وولف»، الكتاب الأميركي في صحيفة «نيويورك تايمز»، وفي المقدمة منها: «هل أميركا وتحديداً في عصر دونالد ترامب فقدت بريقها وألقها، عطفاً على أنموذجها الذي جاهرت وفاخرت به طويلاً«نموذج المدينة فوق جبل»، ذاك الذي أكسبها قوتها الناعمة طوال المائة عام المنصرمة بشكل خاص؟ عبر صفحات كتاب وولف نجد حكايا شائكة ملتبسة بشأن ترشح ترامب نفسه، قصص من المصالح الدونية التي لا تليق بالدولة الديمقراطية الأولى في العالم، بحسب الادعاء الأميركي على الاقل، أما داخل البيت فعوض عن أن يكون»مكاناً للسياسه«بدا وكأنه»مغارة للصوص«، وموقع وموضع لصراع الأعراق والأديان، فقد تكونت هناك جبهتان الأولى أطلق عليها»البانونيين«نسبة إلى»ستيف بانون«عقل ترامب المفكر والنابض قبل أن ينقلب عليه ويطرده، والثانية اسماها جبهة»جافانكا«في إشارة إلى الزوجين»جاريد كوشنر«و»ايفانكا ترامب«، وقد بلغ العداء بينهما حدا كالعداء بين اليهود وغير اليهود، والتعبير لثعلب السياسه الأميركية»هنري كيسنجر«. بريق أميركا يتضاءل مع رئيس أفعاله توصف بأنها»غريبة«من عينة ضرب موظفيه ومرؤسيه بعضهم ببعض، ناهيك عن المكايدات السياسية التي يشرف عليها بنفسه، عطفاً على الشبهات الدائرة حول علاقاته بقوى أجنبية في مقدمتها روسيا. يكاد ضوء المصباح الأميركي أن ينطفئ شرق أوسطياً وعربياً وإسلامياً من جراء قرارات سياسية فوقية تمثل طعنات قاتلة لمليار ونصف أو أكثر من مسلمي العالم، كإعلان القدس عاصمة لدولة إسرائيل، تلك التي تضرب بالآخرين عرض الحائط، مستندة إلى القوة الخشنة الأميركية. مسار آخر لانكسار أميركا تنبأ به عالم اللسانيات الأميركي الشهير «نعوم تشومسكي» في أوائل العام الماضي (2017) حين اعتبر الولايات المتحدة تتدحرج نحو الهاوية... لماذا؟ وضع تشومسكي يديه على موضع الجرح الأميركي الحقيقي، إذ اعتبر أن مسار وطرح التحول إلى الليبرالية الجديدة، سيجعل السوق صاحبة القرار وليس المجتمع، محذراً من أن الشركات العابرة للقارات، والمؤسسات المالية، باتت توجهها الآن مصالح فردية في الولايات المتحدة. ربط المنظرون الأميركيون طويلاً بين الليبرالية وبين الحريات، وراهن المغالون على أن الليبرالية الجديدة تكرس الحريات المطلقة، لكن الواقع يقول إنها تكرس الطغيان، وما وصول دونالد ترامب لمقام الرئاسة الأميركية إلا دليل على ذلك، سيما وأن الحزب»الجمهوري«كان رافضاً في الأصل ترشيحه، إلا أن مصالح مجمعات المال والنفط والأسلحة والتيارات اليمينية الأصولية، جعلت من تسكينه البيت الابيض مسألة تحد وتصد، ترتبط أولاً بمصالحهم الشخصية، قبل السؤال عن مصالح العوام من الشعب الأميركي. تمضي واشنطن اليوم في العديد من قراراتها وتوجهاتها وكانها تسير خلف مفهوم»ضد العالم«، وهو طرح مجاف ومناف لصورة أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، حين أقبلت على مساعدة المتألمين والمجروحين وبخاصة في أوروبا، وفارق شاسع بين أميركا صاحبه مشروع مارشال في ذلك الوقت، وأميركا ترامب اليوم الذي يهدد بقطع المساعدات عن الفلسطينيين. يفند منظر السياسة الأميركية الشهير»ريتشارد هاس«طرح الهيمنة والانفرادية الأميركية بالعالم بقوله»بينما تظل الولايات المتحدة هي أقوى دولة بمفردها، إلا أنها لا تستطيع أن تحافظ أو بالأحرى تنشر السلام والرخاء الدولي على حسابها الخاص وبمعرفتها، ولسوف يحتاج النجاح إلى أطراف مشاركة مما يعني الاحتفاظ بالحلفاء القدامى إلى جانب تطوير شبكات جديدة تستوعب القوى الصاعدة مثل الصين والبرازيل«. على أن علامة الاستفهام:هل هناك مالا يزال يغري بعض دول العالم وشعوبه في النموذج الأميركي؟ في مؤلفه «لم نعد وحدنا في العالم» للمفكر الفرنسي «برتران بادي» أستاذ العلاقات الدولية بمعهد العلوم السياسية في باريس، يرى أنه من السخف الحديث عن «أفول» أميركي، لأنه ليس من تراجع حقيقي لجهة امتلاك الادوات التقليدية للقوة، فالولايات المتحدة تراكم 43% من الإنفاق العسكري العالمي، ولديها أفضل جيش في العالم، وتمتلك الموارد التكنولوجية الأكثر تطوراً. إلا أن المرء يستطيع أن يحاجج في المقابل بالقول إن ذلك وحده لايعد كافياً، فهناك قوى صاعدة أخرى قد تشارك أميركا منفردة أو مجتمعة في بعض تلك المفردات، التي تشكل قوتها الخشنة، في حين أن قوة أميركا الناعمة اليوم لاتزال جلية في مجالات بعينها، وفي المقدمة منها عالم السينما والخيال العلمي والإبداعي، ذلك أن أميركا التي تنتج أقل من 10% من الأفلام في العالم، تحتكر أكثر من 50% من وقت المشاهدة العالمي. وتبقى المسألة العلمية والتعليمية في الداخل الأميركي، مثل الزيت المتبقي في المصباح، تنير لطلاب العالم الساعين لبلورة رؤية علمية غير مؤدلجة. ومن ملامح القوة الأميركية الناعمة، مواقف بعض المؤسسات الدينية الرافضة للأحادية الأميركية، ومنها مؤخراً موقف مجلس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الأميركية والتي رفضت قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية للقدس. هل يضحي ترامب و«ناره وغضبه» جملة اعتراضية في سياقات أميركا الحديثة؟ الأميركيون اليوم مهمومون، بل محمومون بالبحث عن رئاسة تعيد البريق للنموذج الأميركي، وتمسح الغبار الذي لصق بأهداب الحلم الأميركي، فمنذ رونالد ريجان، هناك حالة واضحة من القصور الحكومي الأميركي في المحافظة على وزن الولايات المتحدة القيمي والأخلاقي العالمي، فهل يؤذن ذلك بفترة رئاسية واحدة لترامب بحثاً عن خيار رئاسي أفضل لأميركا والعالم؟ إميل أمين*