كثيرة هي الأزمات التي تواجه إيران في الوقت الراهن داخلياً وخارجياً، لكن التطورات الأخيرة تمثل مؤشراً جديداً أكثر وضوحاً على وجود أزمة أكبر في المنهج نتيجةً لسيطرة فكرة المؤامرة على العقلية السائدة فيه، فليس ممكناً اتهام أطراف خارجية بالتخطيط لأزمات معروفة أسبابها الداخلية إلا حين يصل رسوخ منهج المؤامرة إلى مستوى يتعذر عنده أي نقاش منطقي. ولا يخفى على أي متابع للتطورات في إيران مدى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتدني مستوى معيشة الفقراء وقسم من الطبقة الوسطى. والمفترض أن يعلم ذلك صانعو السياسات التي أدت إلى توسع نطاق الفقر والتهميش الاجتماعي في جانب، وازدياد الثراء الفاحش في الجانب الآخر، بفعل التوسع في الإنفاق العسكري، وتنامي الدعم لمليشيات مسلحة في بلدان عربية عدة. صحيح أن تفاقم معاناة قطاع واسع في المجتمع لا يدفع بصورة آلية إلى الجهر بالغضب والرفض، وتفيد الدراسات المقارنة للغضب الشعبي الذي يبدأ نتيجة استياء من تدهور مستوى معيشة قطاع متزايد في المجتمع، أنه يحدث غالباً عندما يكتشف مَن تزداد معاناتهم أن السياسات المتبعة تزيدها، رغم سهولة حل مشاكلهم. وهذا ما بدأ الإيرانيون يفطنون إليه، ويدركون أن تغيير سياسة النظام الإقليمية، والكف عن التدخل في شؤون بلدان عربية، يوفران الموارد اللازمة لهذا الحل. يتحمل الفقراء ومحدودو الدخل عادة المعاناة الاقتصادية عندما يثقون في أن السياسة التي تتبعها السلطات ستؤدي إلى تحسن الأوضاع بعد حين، لكنهم لا يستطيعون التحمل في حالتين، الأولى حين يتأكدون أن هذه السياسة تؤدي إلى استمرار المعاناة وتفاقمها، والثانية ازدياد مظاهر الانقسام الطبقي وبلوغها مبلغاً يخلق استفزازاً يصعب تحمله. وقد توفرت مقومات كل من الحالتين في إيران في الفترة الماضية، وظهر بوضوح أن التدخل الإقليمي يزداد بعد انكشاف الدعم الذي تقدمه إيران للحوثيين، وتوفر أدلة كافية على ذلك قطعت الشك باليقين، لذا صار متوقعاً أن يزداد الإنفاق على الأذرع الإقليمية، وأن تقل الموارد التي تُخصص للتنمية الاقتصادية والرعاية الاجتماعية. وفى الوقت نفسه، أصبح التناقض بين ثراء فاحش وفقر شديد أكثر وضوحاً، بعد أن تخلى أثرياء النظام والمستفيدون منه عن الحذر الذي التزموه على مدى عقود، وأخذت علامات الثراء في الظهور، وازدادت السيارات الفارهة في الشوارع التي يستخدمها أيضاً عدد متزايد من الفقراء. وعندما تتوفر مقومات حالتي عدم الثقة في نخبة الحكم وسياستها، والتناقض الطبقي الصارخ، لا يحتاج المستاؤون الذين تزداد معاناتهم إلى تخطيط من الخارج أو الداخل، ولا ينتظرون من يدفعهم للإعراب عن استيائهم. يكفي أن يعرفوا مما تعلنه الحكومة، وليس غيرها، من أن الموازنة الجديدة تحمل إليهم المزيد من المعاناة، لكي يجاهر بعضهم بالشكوى ويتبعهم آخرون. واللافت للانتباه أن جدلاً بين مكونات نظام الحكم حول الموازنة الجديدة طفا على السطح مؤخراً، وتضمن انتقادات من داخل النظام نفسه لسياسة الحكومة الاقتصادية لتصفية حسابات مع الفريق الذي يحيط الرئيس حسن روحاني. وبافتراض أن تخطيطاً ما كان وراء استياء الإيرانيين، فالمفترض واقعياً أن يُبحث عنه في داخل إيران، وتحديداً في انتقادات خصوم فريق روحاني لسياسة حكومته، وليس في الخارج، ولكن المفارقة أن هؤلاء الذين انتقدوا الموازنة الجديدة هم تحديداً الذين أسرعوا إلى اتهام دول في المنطقة والعالم، بل ذهب بعضهم إلى وجود تخطيط وتدبير منذ أشهر. لم ينتبه أصحاب خطاب المؤامرة إلى التناقض في موقفهم بين الاعتراف بوجود خلل داخلي دفعهم إلى توجيه سهام النقد إلى حكومة روحاني، والبحث عن سبب خارجي حاول استثمار هذا الخلل. وتفسير هذا التناقض أن العقل التآمري، بحكم تكوينه، لا يستطيع إدراك الواقع كما هو، لأنه يراه بعين المؤامرة التي يعتقد أنها موجودة طول الوقت. ويبدو الإيمان بالمؤامرة على هذا النحو جزءاً لا يتجزأ من منهج نظام الحكم، وليس مجرد مهرب من تحمل المسؤولية، والأمر الذي يعني أن العقلية التآمرية ربما تكون أهم الأزمات الإيرانية الراهنة، وأحد أبرز عوامل استمرار الأزمات الإقليمية التي تنخرط فيها طهران، في آن معاً.