الجدل بشأن تحديد الفقراء الذين يستحقون الإعانة بدأ من جديد بفضل مساعي «الجمهوريين» الجديدة لتشديد شروط العمل المرتبطة ببرامج الرعاية الاجتماعية. وبالنسبة للمحافظين ومن يدور في فلكهم من «الديمقراطيين»، تتعلق شروط العمل بالتأكد من أن الناس الذين يتلقون إعانات اتحادية ليسوا كسالى يعيشون عالة على المجتمع. إنها وجهة نظر خاطئة بشكل كبير. والزعم بأن العدل يقتضي دفع الفقراء إلى العمل كي يحصلوا على الرعاية الاجتماعية ينطوي على مجموعة من المزاعم المرتبكة. ومن هذه المزاعم أن الفقراء لا يعملون أو لا يريدون أن يعملوا وأنهم يستهلكون فحسب، وأن سوق العمل هو العمل الحقيقي، وأن المجتمع والدولة يشترطان أسبقية العمل على الدخل، وأن كل شخص من حقه الحصول على ما يكسبه ببساطة، وجميعها مزاعم باطلة. والواقع أن عدد الفقراء الذين يستطيعون العمل ولا يعملون أو لا يبحثون عن عمل يمثلون نسبة صغيرة للغاية. فقد أشار مركز «مشروع سياسة الشعب» البحثي اليساري إلى أن الراشدين القادرين على العمل الذين اختاروا عدم العمل أو عدم البحث عنه في عام 2016 مثلوا نسبة صغيرة تتراوح بين 1.6% و2.3% من الأميركيين الفقراء. وأشارت دراسة في الآونة الأخيرة إلى أن 87% من الراشدين القادرين على العمل الذين تغطيهم برامج الرعاية الاجتماعية يعملون بالفعل أو يدرسون أو يبحثون عن عمل، وأن 75% من الذين لا يعملون يقدمون الرعاية للآخرين بدوام كامل. والقسط الأكبر من الفقراء من كبار السن والأطفال أو الأشخاص أصحاب الاحتياجات الخاصة. أما مقدمو الرعاية للآخرين فلا يحصلون على أجر كما يحدث في سوق العمل، وهؤلاء هم الآباء الذين يرعون الأطفال أو الأشخاص الذين يرعون كبار السن أو الأفراد المرضى في الأسرة ممن يعملون طوال الوقت دون دوام محدد. لكن ماذا عن العدد الصغير من الناس الذين يستطيعون العمل ولا يعملون بصرف النظر عن السبب؟ ألا يجب أن يُجبروا على العمل؟ حسناً، قبل أن نقرر ما هو صحيح أخلاقياً لهم علينا أن ننظر في شأن مجموعة أكبر بكثير ممن يحصلون على أموال أكثر بكثير دون كد. إنهم الأغنياء المتبطلون. وهؤلاء يمتصون قسطاً كبيراً من أموال الاقتصاد في صورة إيجار أو أرباح أو دخل على رأس المال. فالأجور والرواتب التي تُدفع مقابل عمل لا تشكل إلا 15% من دخل الأميركيين والباقي هو دخل ناتج عن امتلاك رأس المال ببساطة. ونادراً ما يهاجم السياسيون بعنف كسل الأغنياء. والواقع أن الحكومة تغدق مبالغ كبيرة من المال سنوياً على الأغنياء من خلال تقليص الضرائب والدعم. ويشير «كريستوفر فاريسي» الأستاذ بجامعة سيراكوز في كتاب بعنوان «الرعاية الاجتماعية للأثرياء» إلى أن الحكومة الاتحادية في الولايات المتحدة، ليست سخية مع الفقراء وحدهم. وعلى سبيل المثال، منع برنامج التأمين الاجتماعي 26.1 مليون شخص من الوقوع في هوة الفقر بدفع 911.4 مليار دولار مقابل العجز عن العمل أو معاشات كبار السن في عام 2016. وفي العام نفسه بلغت إعانات الضرائب الاتحادية لمعاشات الأشخاص الأكثر يسراً اقتصادياً 179.9 مليار دولار إجمالاً. ولاحظ «فاريسي» أن النموذج نفسه ينطبق على الرعاية الصحية والتعليم، فقد أنفقت الحكومة الأميركية نحو 200 مليار دولار على برنامج «ميديكآيد» في ذاك العام، وأنفقت أيضاً 120 مليار دولار في صورة دعم للتأمين الصحي الذي يقدمه أصحاب العمل. وبينما كان الطلاب الذين تحصل أسرهم على أقل من 20 ألف دولار في العام المستفيدين الأساسيين من منح «بيل Pell» التعليمية الاتحادية فإن الأسر التي تكسب ما بين 100 ألف و200 ألف دولار في العام تلقت 50% تقريباً من خصومات الضرائب على الرسوم الدراسية في الجامعات. وبعبارة أخرى، يقوم الميسورون بالفعل بما يثير غضب المدافعين عن ضرورة العمل، أي يحصلون على مال كثير لم يكسبوه بشق الأنفس في سوق العمل وينتعشون على سخاء الحكومة. ومن المثير للسخرية أو ربما من باب القسوة أن نبدأ العدل من القاع. وإذا أردنا أن نحول اقتصادنا إلى نمط اقتصادي يكسب فيه الناس مقابلاً دقيقاً لعملهم ولا يتلقون من الحكومة شيئاً، فمن الأفضل أن نبدأ أولاً بمن في القمة ممن لا يحتمل أن يتعرضوا لخطر الجوع أو التشرد إذا فقدوا ما يحصلون عليه من إعانات. والواقع أن لا أحد منا يعيش كليةً على ما يكسبه من العمل، فنحن نعتمد على البنية التحتية والمعرفة والتكنولوجيا التي طورها من كانوا قبلنا ومعاصرونا. وبدلاً من محاولة تحويل حياة كل شخص وعمله إلى حسابات دقيقة من المساهمات والاستحقاقات، فمن الأجدى فيما يبدو أن نتبع نهجاً اقتصادياً أكثر عدلاً- يوجه الفائض، ليس إلى الأغنياء، بل إلى من هم في أمس الحاجة- ويعترف في بنائه التوزيعي- بحق كل شخص في الحياة والكرامة.