صدر لنائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، الشهر الماضي، كتابٌ جديد بعنوان «عِدني يا أبي: سنة أمل ومعاناة وتصميم»، وهو ثاني كتاب له بعد «وعود تنجز: حول الحياة والسياسة» الذي صدر في عام 2007. بايدن مثّل ولاية ديلاوير في مجلس الشيوخ الأميركي طيلة 36 سنة، قبل أن يشغل منصب نائب الرئيس الأميركي بين عامي 2009 و2017. وكنائب للرئيس، عالج جو باين مواضيع مهمة تواجه الولايات المتحدة ومثّلها في الخارج، حيث سافر خلال هذه الفترة إلى أكثر من 50 دولة. كما أشرف على التنسيق بين الوكالات الفدرالية، وعمل مع الكونجرس في جهوده من أجل رفع مستوى معيشة أميركيي الطبقة المتوسطة، وخفض عنف الأسلحة، ومكافحة العنف ضد النساء. وقد امتد حضور جون بايدن في العاصمة الأميركية لقرابة نصف قرن، وهو يصنَّف باعتباره ديمقراطياً من الطراز التقليدي، غير أنه يرتبط بعلاقات صداقة مع سياسيين من كلا الحزبين الرئيسيين. وقد سبق له أن ترشح لتمثيل الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية مرتين وخسر بفارق كبير، لكنه لم يعد إلى ولايته، وإنما استأنف الخدمة العامة. وعندما كان الوافد الجديد، باراك أوباما، يبحث عن مرافق له على «التذكرة الرئاسية»، كان بايدن خياراً حكيماً وموفقاً. غير أن مشوار بايدن السياسي كانت تتخلله دائما مآس شخصية، حيث كانت وفاة زوجته الأولى وابنته التي لم يكن عمرها يتجاوز السنة الواحدة في حادثة سيارة قبيل وصوله إلى واشنطن، وبعد ذلك ب42 عاماً، جاءت وفاة ابنه «بو»، الذي أصيب بسرطان الدماغ. وكان «بو»، الذي خدم ضمن الجيش الأميركي في العراق، يعتزم الترشح لمنصب حاكم ولاية ديلاوير بعد عامين من الخدمة كمدع عام للولاية، وكان الأوفر حظاً للفوز بالمنصب. وفي كتابه «عِدني يا أبي»، يحكي جو بايدن، بأسلوب مؤثر للغاية، صراع العائلة مع المرض الفتاك، وكل ذلك على خلفية المتطلبات اليومية لمنصبه كنائب للرئيس وإغراءات ترشح آخر للرئاسة. كما يروي الوقائع القاسية للإصابة بالسرطان، وخاصة حين يكون المصاب ابناً. ذلك أنه عندما يصاب فرد من أفراد الأسرة بهذا المرض الخبيث، فإن سائر الأسرة تتأثر. تم تشخيص إصابة «بو» بالسرطان، وحاول أن يكون قوياً ومتفائلا بشأن محاربة الأعراض الأولى للداء، مردداً عبارته المفضلة: «كل شيء بخير، كل شيء بخير». والحال أن الأمور لم تكن بخير. ذلك أنه عندما أثار أطباء الأمراض العصبية في فيلادلفيا إمكانية الإصابة بورم قاتل في الدماغ، كان طبيبُ العائلة صريحاً على نحو قاس عندما سُئل: إلى أي مستشفى ينبغي أخذ «بو» من أجل العلاج؟ إذ قال: «إذا كان الوحش، فلا يهم أين نذهب». وقد كان الوحش بالفعل! اختارت عائلة بايدن «مركز آندرسون للسرطان» في هوستون، والذي يضم ثلة من الجراحين المشهورين عالمياً. وقد يكون من المفيد الإشارة هنا عرضا، وخاصة في الظروف السياسية الأميركية الحالية، إلى أن طبيبي «بو» كانا كلاهما مهاجرين، أحدهما من الشرق الأوسط والآخر من الصين. وشرعا في علاج قوي ومكثف، شمل استئصال الورم من دون إلحاق أذى بمهارات بو الحركية والكلامية. ومرت المرحلة الأولى من العلاج بشكل جيد، ولهذا غادر نائب الرئيس هوستن ليعود إلى مهامه في البيت الأبيض، ولإطلاق حركة سرية من أجل حملة انتخابية لبايدن كمرشح للرئاسة لعام 2016. وكان فريقه من الحملات السابقة يشتغل، وكانت المؤشرات الأولى تبدو واعدة وتبعث على التفاؤل، حتى مع فرضية أن تكون هيلاري كلينتون مرشحة الحزب. غير أن الشخص الذي لم ترقه فكرة ترشح بايدن هو رئيسه وصديقه الرئيس أوباما، الذي عبّر عن معارضته للفكرة بلباقة، وكان واضحاً لبايدن أن أوباما خلص إلى أنه بات من شبه المؤكد أن كلينتون ستكون مرشحة الحزب. فتفهم نائب الرئيس قلق الرئيس، إذ كيف سيتسنى لبايدن أن يوفق بين عمله كنائب للرئيس، ويترشح لتمثيل الحزب في الانتخابات الرئاسية، وأن يكون إلى جانب ابنه في هذه الظروف الصعبة؟ ثم أي نوع من الفوضى سيتسبب فيه كل ذلك بالنسبة لل18 شهرا الأخيرة من رئاسة أوباما؟ غير أن أوباما وبايدن كانا يشكّلان فريقا واحدا منسجما، وعلى غرار الكثير من الفرق الناجحة، كانا يكمّلان بعضها البعض. ويعترف بايدن في هذا الصدد بأنه «كانت ثمة مرات كنا نستاء فيها من بعضنا البعض»، غير أنهما كانا يحرصان على الإبقاء على خلافاتهما سرية ولا يخرجانها إلى العلن. وعندما استأنف نائب الرئيس مهامه باعتباره الرجل المكلف في الإدارة بالمواضيع الدولية المزعجة، أجرى اتصالا مع الرئيس العراقي، وذهب إلى أميركا الوسطى قصد التعاطي مع مشكلة أطفال المنطقة الذين يتدفقون على الحدود الأميركية، وسافر إلى موسكو من أجل أول لقاء مع فلاديمير بوتين. وهناك، جمعت بايدن وبوتين محادثات صعبة حول نشر درع صاروخي دفاعي أميركي قريباً من الحدود الروسية، حيث لم يستطع نائب الرئيس الأميركي إقناع بوتين، الرجل الفولاذي، بأن المنظومة كانت هناك لأغراض دفاعية من أجل الحماية من صواريخ إيرانية. وفي هذا السياق، يتذكر بايدن أن الرئيس جورج بوش الابن حكى أنه خلال أول لقاء له مع بوتين نظر إلى عينيه واستطاع «فهم روحه»، ويقول إنه نظر إلى بوتين مباشرة وقال له: «سيدي رئيس الوزراء، إنني لا أعتقد أن لديك روحاً». ويكتب بايدن قائلا: «فنظر إلى مبتسماً ثم قال: «إننا نفهم بعضنا بعضا». ولدى عودته إلى البلاد، كانت الآمال في تعافي «بو» قد أخذت تتلاشى بسرعة، حيث أعيد إلى المستشفى وأُعطي جرعات زائدة من الأجسام المضادة متبوعةً بعملية جراحية لإزالة أجزاء من الورم. ثم أعيد إلى البيت. لكن حالته الصحية سرعان ما ساءت وتدهورت ليُنقل إلى المستشفى من جديد. وبعدها بأيام استسلم جسده أخيراً للسرطان، وتوفي محاطاً بأفراد عائلته وأطبائه. وبعد تشييع الابن إلى مثواه الأخير، واصل الفريق السياسي للأب التحضير لحملة بايدن للانتخابات الرئاسية، تشجعهم على ذلك ما رأوا أنها آفاق أكثر إشراقا من أي وقت مضى. ومما ساهم في دفع بايدن في تلك الفترة شغفه بالحملات السياسية، وثقته في قدرته على الفوز، ووتيرة التطورات الواعدة، ودعوات الأصدقاء مثل سيناتور نيوجيرزي بيل برادلي الذي قال له: «جو، أحيانا يلتقي الرجل باللحظة.. لقد قرّبتك المأساة من الجمهور، ويمكنك البناء على ذلك. هذه لحظتك يا جو!». لكن صديقا آخر لبايدن، السياسي المخضرم مايك دونيلون، كان يرى شيئاً مختلفاً، ألا وهو ألم بايدن المستمر جراء فقدان ابنه، فقال له بهدوء: «أعتقد أنه لا يجدر بك القيام بهذا». وكانت تلك لحظة تغلبت فيها الصداقة على السياسة، وهو شيء نادر في البيئة المحتدمة لحملة انتخابية رئاسية. وفي اليوم الموالي، ظهر بايدن، وإلى جانبه أوباما، ليعلن رسمياً أنه لن يترشح. وقد بدا مرتاحاً ومتصالحاً مع هذا القرار. بايدن يبدو أنه يرغب في أن يظل عضواً نشطاً في «مونشوت»، وهي مبادرة عملاقة وطموحة ترمي إلى تطوير جهد ضخم ومنسق لتسريع التطورات الإيجابية العديدة في معالجة السرطان. ويُعد دوره الجديد امتداداً لحوار جمعه بابنه «بو» في المراحل الأولى من المرض. فعندما اتضحت خطورة الوضع، دعا «بو» والده إلى جانبه وقال له: «عليك أن تعدني يا أبي بأنه مهما حدث، فإنك ستكون بخير. اعطني وعداً، يا أبي. إنك ستكون بخير». وعليه، فيمكن القول إن بايدن وفى بالوعد لابنه. محمد وقيف الكتاب: عِدني يا أبي. سنة أمل ومعاناة وتصميم المؤلف: جو بايدن الناشر: فلتيرون بوكس تاريخ النشر: 2017