ما ينتظره الناس من السياسيين، خاصة قادة الدول ورجال الإدارة العليا، هو أن يبذلوا أقصى ما لديهم من جهد في سبيل توفير العيش الكريم للشعب كله عبر تقديم الخدمات كافة من تعليم وغذاء ودواء وإيواء واتصال وترفيه، وإقامة العدل من خلال الالتزام بتطبيق القانون أو إنفاذه وتوفير الفرص المتكافئة بين الجميع دون تمييز على أساس النوع أو العرق أو الدين أو المذهب أو اللغة أو الطبقة أو الجهة، واتخاذ ما يلزم حيال حماية الدولة وتمثيلها بأمانة وكفاءة وبراعة لدى الدول الأخرى، لكن كل ما في هذا من خدمات مادية ومعنوية ورمزية يبدأ بالكلام. فالبرامج التي تضعها الحكومات، وتعمل على ترجمتها في الواقع المعيش، تصاغ في كلمات، تتجاور لتصنع العبارات، التي تتابع فتصنع تصورات متكاملة أو مقبولة ومقنعة، تتم فيها ترجمة الأحلام والأفكار والأخيلة إلى إجراءات قابلة للتطبيق. والبدائل التي تضعها المعارضة للسياسات القائمة ما هي في النهاية إلا كلمات أيضاً، تتوزع على دروب الحياة كافة، وترمي إلى إقناع الناس بها، وتظل وعوداً طالما أن المعارضة لم تتول الحكم، فإن تولته انسحب عليها ما ينسحب على من كانوا في إدارة الدولة من قبل. وفي الحالتين يحط الكلام الهائم في الرؤوس على الورق، فتحدده العبارات المكتوبة أو تحده وتقيده على منتج الرسالة ومتلقيها، لاسيما إن كان واضعو البرامج لديهم إلمام تام بالمشكلات والمعضلات والتحديات، وقد درسوها وقلبوها على وجوهها كافة، وخلصوا إلى حلول علمية وعملية لها، تتخلص من أساليب الخداع والمراوغة واللعب على الغرائز والعواطف التي تتطلب شحنات من البلاغة والمجاز، وهروباً من التقييد والتقيد بالتزامات واضحة جلية، لا مجال فيها لتأويلات عدة، أو تفسيرات متباينة، أو أبواب ونوافذ مواربة للتنصل والهروب. وهذه البرامج أو الخطط تتسم بالتقريرية والعملية والإجرائية، التي تصبح بمنزلة العهود أو الوعود التي تقطعها الحكومات على نفسها، بعد أن تكون قد حددتها وعددتها وقدمتها في صورة مفصلة بوسع كل من يطلع عليها أن يعرف ما له وما عليه، أو على الأقل يدرك المستوى المعقول والمقبول منها، فيمتلك القدرة على التقييم والمراجعة والمحاسبة، سواء بطريقة مباشرة أو عبر ممثلي الشعب من أعضاء المجالس النيابية والمحلية أو البلدية، الذين تتركز مهامهم في سن التشريعات والقوانين والمشاركة في وضع السياسات العامة، والرقابة على أداء الحكومة، والمساهمة في إطلاع الشعب على المعلومات وخلفيات القرارات. وينقل هؤلاء كل ما يدور، أو يعبرون عن آرائهم فيما يجري، أو يشاركون في صنعه من خلال الكلمات. ويشاركهم في هذا الإعلام الذي يعرض ما يتلقاه من المسؤولين والممثلين النيابيين، ثم يعمل على كشف ما يتعمد هؤلاء إخفاءه، ويصيغ كل هذا في كلمات تكتب في الصحف أو ينطق بها الإعلاميون في البرامج الإذاعية والمتلفزة، وقد يتم رسمها في صور ملتقطة من الواقع، بعضها يغني عن آلاف الكلمات، أو في رسوم كاريكاتورية تختزل الكثير مما يقال، وربما تعبر عنه بطريقة أعمق مما تسطيع الكلمات أن تفعله. رغم هذا نجد في بعض الدول حكومات أو سلطات تتهم معارضيها بأنهم لا يملكون إلا «الكلام»، مع أن الكلام هذا يكون هو الطريقة التي تحتويها البرامج الحزبية، والخطط، والسياسات البديلة أو التعقيب والتصويب الذي ينطق به المعارضون، أو التعبير عن الآراء والمواقف والاتجاهات من قبل سائر المحكومين، الذين بوسعهم أيضاً أن يعبروا عن هذا بطرق أخرى غير الكلام تشمل الإشارة والإيماءة ولغة الجسد عموماً. لكن كلام السياسة لا يقتصر على هذا، إنما يتجلى أيضاً في الخطب والشعارات والبيانات والمنشورات، فيتخفف كثيراً في هذه الحالة من التقريرية والإجرائية ويكون بوسعه أن ينهل من معين البلاغة بما تنطوي عليه من استعارات ومجازات وتشبيهات، يتم استعمالها في التعبئة السياسية والاجتماعية خلال الانتخابات أو الاستفتاءات أو دعوة الشعب للحضور خلف المشاريع الوطنية الكبرى، وتستعمل أيضاً في التحريض والتجييش والتهييج والتأجيج خلال أنماط من الاحتجاج مثل المظاهرات والاعتصامات والإضرابات والانتفاضات. ففي الحالة الأخيرة لا يكون القائمون بالتعبئة أو التحريض معنيين بدقة الألفاظ وعقلانيتها وواقعيتها وعلميتها ومنهجيتها، مثلما هو الحال في الناطقين الرسميين بتصريحات وبيانات وردود على الانتقادات التي توجه للسلطة، أو واضعي الخطط أو من يسنون القوانين والتشريعات ويصيغون الدساتير. لكن الطرفين قد يتبادلان في بعض المواقف والحالات اللجوء إلى البيان أو البلاغة، من منطلق إدراكهما أن السياسة ليست في النهاية سلعة مادية، معمرة أو استهلاكية، إنما هي خطاب في الأساس.