لم تمنع هيمنة القوى اليمينية المتطرفة والجماعات الأصولية المتشددة على المشهد السياسي الإسرائيلي ظهور أصوات عاقلة تخشى عواقب وخيمة للقرار الأميركي بشأن القدس. ويحذر بعض العقلاء من أن يتحول هذا القرار إلى «هدية مسمومة» على المدى الطويل إذا أدى إلى تقويض فرص التوصل إلى تسوية سلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على أساس حل الدولتين. ويعرف هؤلاء أن تقويض «حل الدولتين» يعني أنه سيكون هناك خيار واحد، في حالة تغير الظروف الإقليمية والدولية وتجدد السعي إلى السلام، وهو حل الدولة الواحدة، وهم يرون أن هذا الحل هو الأخطر على إسرائيل، رغم أنه بات منبت الصلة بما كانت حركة «فتح» ومنظمة التحرير تسميانه في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات «الدولة الديمقراطية العلمانية». وليس هذا مجرد خوف من المستقبل، بل سيناريو محتمل يتعذر استبعاده، فمن شأن تقويض حل الدولتين انتهاء وظيفة اتفاق أوسلو الذي لم يكتمل، ومن ثم افتقاد السلطة الفلسطينية التي أُنشئت بموجبه مبرر وجودها، وربما عجزها عن الاستمرار في الأمد المتوسط، ما قد يدفع إسرائيل إلى إعادة احتلال الضفة الغربية، أو بالأحرى التوسع في احتلالها، لأنها تسيطر على مناطق واسعة فيها. والأرجح أن تؤدي العودة إلى الوراء في مسار الصراع على هذا النحو إلى اشتعاله، وازدياد حدته، في غياب عملية سلام كان مجرد الحديث عنها يُعطي أملاً في التوصل إلى حل. والمتوقع، في هذه الحالة، أن يدخل الصراع مرحلة جديدة ربما تكون أكثر خطراً من أية مرحلة سابقة، وخاصة إذا وصل إلى وضع تتعذر فيه السيطرة على تفاعلاته، وازداد المكوِّن الديني فيه، فقد أعطى قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل القوى الأصولية المتشددة فيها دفعة سياسية ومعنوية كبيرة، فيما تتحرك إيران سعياً إلى استغلال هذا القرار لتأجيج المشاعر الدينية في أوساط المسلمين. ومن شأن ازدياد حدة الصراع، وطغيان البُعد الديني فيه، أن يخلق موجة تطرف جديدة قد تصبح مع الوقت أخطر من كل ما سبقها، وتُنتج بالتالي ممارسات إرهابية أكثر تهديداً للمنطقة والعالم. والمتوقع، في هذه الحالة، أن يعود المجتمع الدولي للبحث عن حل سلمي مجدداً، بما يتطلبه ذلك من ضغط على إسرائيل لإنهاء الاحتلال الذي سيصبح كاملاً وعارياً أمام العالم بعد انتهاء وظيفة اتفاق أوسلو، وضمن تداعيات القرار الأميركي بشأن القدس. سيدرك العالم إذن أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يُمثل تهديداً له، حين تخمد جذوة الصراعات المشتعلة في المنطقة الآن، وحينها لن تكون هناك صيغة لحل سلمي، بعد تقويض حل الدولتين، إلا حل الدولة الواحدة، ويتطلب هذا الحل تحويل الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال إلى «مواطنين في إسرائيل». والأرجح أنهم سيكونون مواطنين من درجة ثالثة أو رابعة في البداية، وستسعى إسرائيل إلى عزلهم في إطار نظام فصل عنصري، اعتقاداً بإمكانية إبقائهم تحت سيطرتها، لكن مثل هذا النظام ليس قابلاً للاستمرار في عصرنا الراهن. وفي تجربة جنوب أفريقيا دليل على ذلك. سيكون الفلسطينيون أغلبية، وستزداد هذه الأغلبية، وستقل نسبة اليهود تدريجياً، وسيتمكن الفلسطينيون من كسر المعازل العنصرية في النهاية كما حدث في جنوب أفريقيا. وهذا سيناريو محتمل بدرجة كبيرة، ويحاول عقلاء في إسرائيل التنبيه إليه بلا جدوى. يتجاهل اليمين المتطرف، والأصوليون المتشددون، هذا السيناريو. وربما يعتقدون أن الفلسطينيين المنقسمين المنهكين سيبقون على حالهم، وأن العرب سيظلون منغمسين في مواجهة التهديد الإيراني، ولن يتمكنوا من وقف تمدد طهران وإعادتها إلى حجمها، لكن ها هي دول عربية رئيسة قررت مواجهة طهران، التي بدأت قوى دولية كبرى تدرك أيضاً خطر تمددها، ويعني هذا تغير الظروف التي مكنت طهران من توسيع نفوذها، ومن ثم انحسار خطرها، الأمر الذي سيتيح حال حدوثه منح أولوية أكبر لحل قضية فلسطين، لكن المتطرفين في إسرائيل لا يرون أبعد من موضع أقدامهم، ورغم ضعف الأصوات الإسرائيلية العاقلة، يمكن الاستناد إليها في أي تحرك عربي تجاه الولايات المتحدة، وتوسيع نطاق هذا التحرك ليشمل الإعلام والقوى الفاعلة في المجتمع الأميركي، فضلاً عن الكونجرس بطبيعة الحال، سعياً لأن يدرك مؤيدو إسرائيل أن قرار القدس يؤذيها ويضعها في ورطة تاريخية على المدى الطويل، مهما بدا أنه يدعمها في الأمد القصير.