العربية لغة الملايين من المتحدثين بها من الوطن العربي أو الناطقين بها في العالم الإسلامي وبعض أرجاء المعمورة، وقد فخرت العربية قديماً بلسانها وبيانها، كما افتخرت بأنسابها، فهي مرآة لحياة الأمة، ووعاء فكرها، والسجل المُعبِّر عن خصائصها وأساس التواصل الاجتماعي بين أهلها، فلما شُرِّفت العربية بنزول القرآن الكريم بها أصبح الاعتزاز منوطاً بتلك الكرامة الإلهية خاصة، وباعثاً لدراستها لفهم آيات الذكر الحكيم، وإدراك أسرار البلاغة فيها، وفهم الأحاديث النبوية، وعمق دلالتها في أحكام الشريعة، وفي آداب السلوك وحكمة الحياة وقيمتها! إلى أن قال المستشرق الفرنسي وليم مرسيه: «العبارةُ العربية كالعود، إذا نقرتَ على أحد أوتاره، رنّت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تُحرّك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور». أما الأديب الفرنسي جول فيرن في إحدى قصصه الاستشرافية جعل من شخصيات الرواية من ينقشون على الصخر باللغة العربية، ولما سُئل عن اختياره للغة العربية قال: إنها لغة المستقبل. من هنا كان اهتمام فرنسا بتعليم اللغة العربية إلى ثلاثة قرون مضت، ويمكن أن نرسم ثلاث مراحل لتعليم العربية في فرنسا. المرحلة الأولى: وتركز على إعداد جيل من الباحثين والمدرّسين والمستشرقين في الثانويات الكبرى والجامعات الفرنسية، ولكن على الرغم من الجهود المبذولة في مجال تعليم اللغة العربية من جهات مختلفة، متمثلة بمفتش التربية والمدرّسين والباحثين والجمعية الفرنسية للمستعربين فإنها لم تحقّق النجاح الكبير في تعليم اللغة العربية على المستوى نفسه الذي سلكته اللّغات الأجنبية في البلاد الأخرى. ولعلّ السبب في ذلك هو الاعتبار الديني والهوياتي للغة العربية، فتدريسها ارتبط بقضايا دينية وقضايا استعمارية في الآونة الأولى، يقول هنري لورانس أستاذ التاريخ المعاصر للعالم العربي في كوليج دو فرنس: «شكّلت المسألة الدينية نقطة انطلاق الدراسات العربية في سياق الجدل بين الكاثوليك والبروتستانت»، ففي النزاع الذي كان يتعارض فيه الكاثوليك والبروتستانت، انصبّ اهتمامهم على اللغة العربية من أجل حلّ ألغاز النصوص الدينية للكنائس الشرقية، والعثور على الحجج الضرورية لاتهام بعضهم بعضاً بالزندقة والمروق. المرحلة الثانية: وكانت في القرن التاسع عشر حيث أُعدَّ جيلٌ من المستعربين استجابة لحاجات الإمبراطورية الفرنسية وعلاقتها بالجزائر لإيجاد سبل تقريب الفرنسيين من الأهالي، وتسهيل اندماجهم من خلال إحداث وحدات عسكرية ومدنية متمثلة في إداريين فرنسيين ملمّين باللغة العربية وثقافتها، وبهذا الصدد يؤكّد هنري: «مع مرور الزمن، سيصبح عدد من هؤلاء الإداريين الاستعماريين علماء كباراً». المرحلة الثالثة، وتبدأ في سبعينيات القرن الماضي حيث أخذ تدريس اللغة العربية يسير في ركب التطور وارتبط بمسألة الهجرة، إذ كان يوجد في فرنسا آنذاك ضغط اجتماعي كبير جداً نحو تعليم اللغة العربية، الأمر الذي ولّد العديد من التلاميذ من أصل عربي في الإعداديات والثانويات وإحداث شهادة الأهلية في سنة (1975م)، وهذا بحدّ ذاته يمثل انطلاقة لا يستهان بها لتعليم العربية. وهذا الإقبال على تعليم العربية مرتبط إلى حد كبير بالهوية، على الرغم من إقبال بعض الفرنسيين على تعلّمها، ولا ننسى في ثمانينيات القرن العشرين عندما وقّعت كلّ من الجزائر وتونس والمغرب اتفاقية لتعليم اللغة والثقافة العربيتين لأسباب ترتبط إلى حد كبير بالهوية، واحتمال عودة المهاجرين إلى بلدانهم، ونلاحظ نهجَ سياسة تعليم اللغة والثقافة العربيتين يتمثل في تمتين روابط الهوية والثقافة التي ترغب البلدان الأصلية في المحافظة عليها مع أبنائها المهاجرين. انتقل تعليم العربية من تعليم تحكمه فكرة «حتمية العودة إلى الوطن» التي سادت في السبعينيات، إلى تعليم يرتكز على فرضية البقاء في المهجر التي أصبحت واقعاً، خاصة مع ارتفاع وتيرة الهجرة في إطار التجمع العائلي والاندماج في مجتمع المستقبل مع الحفاظ على الهوية. وفي ظل هذا التحول، تغيّرت وجهة المهتمِّين بتعليم اللغة العربية من أداة تخدم فكرة الرجوع إلى وسائل البحث عن سبل توطين الاندماج والتوازن النفسي والثقافي للمهاجرين خصوصاً في صفوف الشباب، وعلى الرغم من الجهود المبذولة من الجاليات والجمعيات فإنّ تدريس اللغة العربية يبقى محدوداً، ويواجه مجموعة من المشاكل والتحديات، نذكر أهمها: عدم وجود رغبة كافية لدى الطالب مما يشكّل عائقاً نفسياً أمام تعلّمها.