انتقد الكرملين الاستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي بأوصاف لافتة: «استبدادية»، «امبريالية»، و«غير قابلة بعالم متعدّد الأقطاب». واتهمتها بكين بأنها «تشوّه الحقائق وتتعمد الافتراءات» وتعيد إنتاج «ذهنية الحرب الباردة». وبالنظر إلى حال النظام الدولي الراهن يمكن القول، إن الفوارق باتت طفيفة بين الأقطاب الثلاثة. لم تكن هناك ردود من إيران وكوريا الشمالية اللتين صنّفهما ترامب عدوّتَين، بعد «الغريمتَين» الكُبريَين، وقبل الإرهاب الدولي الذي تلقى خلال السنة المنتهية هزائم يفُترَض أنها قلّصت مخاطره إلى حين. ورغم أنها استراتيجية للأمن القومي إلا أنها لم تأتِ بجديد بالنسبة إلى مواجهة التهديدات الإيرانية التي تضاعفت، أو الكورية الشمالية التي بلغت أقصى درجات التحدّي، وإذ يختصر شعار «أميركا أولاً» مع ترامب يختصر النيات والأهداف، فإنه يضاعف الغموض والشكوك لدى الحلفاء والأصدقاء الذين اعتادت أي استراتيجية أميركية أخذ أمنهم في الاعتبار. ليست هذه المرّة الأولى التي يُشار فيها إلى «عالم متعدّد الأقطاب»، لكن الصوتَين الروسي والصيني نبّها أميركا، كلٌّ بطريقته، إلى ضرورة اعترافها بالواقع، سواء بعودة روسيا إلى المنافسات السياسية الدولية أو بصعود الصين كقوّة اقتصادية تؤهّلها على الأقل لهيمنةٍ سياسية وعسكرية في محيطها الأقرب. لذلك اتهم ترامب موسكو بإنشاء «جبهة غير مستقرّة في أوراسيا» من خلال زيادة القدرات العسكرية و«محاولة إضعاف النفوذ الأميركي في العالم وخلق انشقاقات مع حلفائنا وشركائنا»، كما اتهم بكين بـ «تقويض أمن وازدهار» الولايات المتحدة و«السعي إلى ازاحتها من آسيا»، ورغم إشارته إلى أن الدولتَين تطوّران أسلحة تهدّد «البنية التحتية» الأميركية فإنه يريد إقامة «شراكات» معهما. غير أن الوقائع تُظهر صعوبة أي شراكة، أولاً لأنها تضطرّ أميركا لمساومات لا يريدها ترامب وكان سلفه أوباما تملّص منها، وثانياً لأن الدولتَين الأخريَين قطعتا شوطاً كبيراً لإنهاء المرحلة التي كانت أميركا فيها «قوة عظمى وحيدة» وتسعيان إلى تثبيت ذلك. في ضوء هذا الواقع الجديد باتت المعادلة كالآتي: إمّا منافسة قد تشارف حدّ التصادم أو شراكة توجب تقاسم النفوذ. وقد برهنت أميركا في العام الأول من ولاية ترامب تردّداً في إلهاب أي صدام، وهو توجّه تبلور في الولاية الثانية لجورج بوش الابن وتعمّق في ولايتي أوباما، كما أن محاولاتها لإقامة شراكات اصطدمت باندفاع روسيا والصين إلى تحدّي نفوذها المتراجع وقضمه هنا وهناك، حتى لو لم تكن لديهما دائماً الوسائل والمقوّمات لتكونا بديلاً منها. تدلّ على ذلك نزاعات اوكرانيا وسوريا وجورجيا حيث تمكّنت الاختراقات الروسية من فرض نفسها، فضلاً عن توترات جنوب شرق آسيا حيث يتوسّع النفوذ الصيني في مواجهة مباشرة مع أميركا، بالإضافة طبعاً إلى الخلافات التجارية وما ترتّبه من استقطابات سياسية صينية على حساب اميركا. قد يكون جديد هذه المنافسة بين الأقطاب الثلاثة أن الولايات المتحدة لم يعد لديها «شركاء» مثل الاوروبيين تعتمد عليهم، بسبب تفرّدها وأخطاء سياساتها، فيما يجلب لها شريكها الوحيد - إسرائيل - مزيداً من العداوات. أما روسيا والصين فتتسلّحان الآن بإيران وكوريا الشمالية كقوّتين إقليميتَين قادرتَين على إزعاج أميركا وتشكيل نوع من الردع لها، وتوشك موسكو أن تضيف إليهما تركيا، ولو جزئياً. ومن الواضح أن أميركا-ترامب تواجه معضلات متفاوتة مع هذه الدول الرديفة الثلاث، وإذ لا يزال نفوذها سليماً في تركيا فإنه لا ينفكّ يتشوّه ويضعف، لكن الحال مع بيونج يانج وطهران مختلفة تماماً. فالأولى صارت تهديداً مباشراً يواصل كيم جونغ اون تذكير واشنطن به، والثانية تستمرّ في تحدّيها لاميركا، والاثنتان تستخدمان صعوبة التوافق بين «الأقطاب» الثلاثة لتحقيق أهدافهما وتشكّلان خطراً داهماً للدول الحليفة أو الصديقة لأميركا. *محلل سياسي- لندن