القدس قضية في ذاتها، فضلاً عن كونها جزءاً أساسياً من قضية فلسطين، وعقدة جوهرية في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. قضايا هذا الصراع متداخلة يتعذر وضع حد فاصل بين إحداها والأخرى. تبدو القدس والمستوطنات والحدود مثلثاً يتعذر إيجاد حل للصراع من دون أحد أضلاعه. ولكن القدس ليست مجرد ضلع في هذا المثلث. إنها قاعدته المتعلقة بأكثر جوانبه حساسية ورمزية لوجود مقدسات دينية إسلامية ومسيحية ويهودية فيها. ولذلك تتطلب معالجة الأزمة العميقة التي أثارها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، تفكيراً جديداً خارج «الصندوق» القديم الذي لم تستطع الخروج منه طوال نحو سبعة عقود. وما كان لقرار رئاسي تنفيذي يُعد بمثابة إصدار متأخر لقانون أقره الكونجرس الأميركي عام 1995 أن يحدث كل هذه الأزمة إلا لغياب تفكير عربي جديد في مرحلة تفرض مراجعة منهجنا في التعاطي مع قضية فلسطين في ظل متغيرات هائلة، فضلاً عن حساسية قضية القدس وأهميتها الخاصة. وليست هذه هي المرة الأولى التي تبدو فيها الحاجة شديدة إلى تفكير جديد في قضية القدس. كانت هناك محاولة سابقة في هذا المجال خلال مفاوضات فلسطينية- إسرائيلية أجريت برعاية أميركية في نهاية التسعينيات، نوقشت في ذلك الوقت فكرة أن تصبح القدس عاصمة للدولتين، مع تعديل في الحدود بين شرقها وغربها، ولكنها اصطدمت بمسألة السيادة على المناطق المقدسة، وفي القلب منها المسجد الأقصى. وكانت الفكرة هي أن تكون السيادة للفلسطينيين فوق الأرض، وللإسرائيليين تحت الأرض بدعوى أن اليهود يؤمنون بوجود أثر للهيكل القديم أسفل المسجد على رغم عدم وجود أي واقع مادي يدل عليه. رُفضت الفكرة التي بدت غريبة، واعتبرها البعض عجائبية، وذهب بعض آخر إلى أنها شاذة، ولكن الأفكار الجديدة تتضمن بطابعها ما يبدو غريباً أو مدهشاً لمن لا يألفونها، ويقاومها من يجدونها متعارضة مع مصالحهم أو طموحاتهم أو أطماعهم. وعلى رغم ذلك، لا بديل عن تفكير جديد في قضية القدس الآن إذا أردنا المحافظة على شيء من الحقوق الفلسطينية والعربية، وحقوق المسلمين والمسيحيين في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة. ولابد أن يبدأ أي تفكير جديد اليوم بتقرير واقع يعلمه الجميع، ولكنه يصدم الكثيرين عندما نعترف به، وهو أن نمط الاحتجاج التقليدي المستمر منذ انتفاضة 1936 لم يوقف التمدد الصهيوني المتواصل الذي بدأ عبر هجرات متوالية، وحقق نقلة نوعية بإعلان قيام إسرائيل عام 1948 على الجزء الأكبر من فلسطين، ثم نقلة أخرى عبر احتلال القسم الباقي عام 1967. وليس ممكناً، وفق هذه التجربة الطويلة، أن تُحقَّق الاحتجاجات على قرار ترامب بشأن القدس شيئاً. ولا يعني ذلك وقفها، أو الكف عن الاعتراض على قرار ظالم، فضلاً عن خطره على المنطقة والعالم لأنه يزيد حدة التطرف والعنف، ويتعارض بالتالي مع متطلبات مواجهة الإرهاب في لحظة يضع المجتمع الدولي هذه المواجهة في مقدمة أولوياته. الاحتجاج، إذن، ضروري، ولكن بأكثر الأساليب سلمية وتأثيراً في الوجدان العالمي، مثل الاعتصامات النهارية في القدس ومدن فلسطينية أخرى، والمسيرات الليلية بالشموع، من دون صدام مع قوات الاحتلال. والهدف من هذا النوع من الاحتجاج البناء على التعاطف الدولي الواسع مع الشعب الفلسطيني، والقلق العالمي الواضح من تداعيات قرار القدس، للضغط على الإدارة الأميركية لاتخاذ خطوات محددة في حدود الممكن لإبقاء الباب مفتوحاً أمام حل سلمي لصراع لا مصلحة لها، ولا للعالم كله، في أن ينفجر وتتحول «شظاياه» إلى خلايا تطرف وعنف، في الوقت الذي حدث تقدم يُعتد به في مواجهة الإرهاب. وثمة خطوتان مهمتان، ويحسن أن تكونا متزامنتين، في هذا الاتجاه. الأولى هي الضغط على حكومة نتنياهو لإعلان تجميد الاستيطان في القدس، وإلغاء قرار إنشاء وحدات سكنية جديدة لليهود فيها، على أن يشمل التجميد الضفة الغربية أيضاً. والثانية إعلان الرئيس الأميركي أن قراره يخص الولايات المتحدة، ولا ينشئ وضعاً جديداً، وأن إدارته لا تطلب من أية دولة أخرى أن تفعل مثلها، ولا يمنع الاتفاق على أن تكون القدس عاصمة مشتركة للدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. فلنجرب تحركاً في هذا الاتجاه، بحيث يُبنى الموقف العربي على نتائجه. فإما مواصلة التحرك من أجل تحريك عملية السلام بمنهج جديد ورعاية دولية لا تقتصر على واشنطن، وإما إعلان أن الدور الولايات المتحدة في هذه العملية لم يعد ممكناً حتى تراجع سياستها، والسعي إلى دور أوروبي- روسي- صيني بديل عنها.