دلف «ديفيد باتريكاراكوس» إلى خطوط الجبهة الأمامية في الحرب المعاصرة للقاء عدد من الأفراد الذين مكنتهم مهاراتهم في استخدام أسلحة من طراز جديد، ألا وهي «وسائل التواصل الاجتماعي»، من «إعادة تشكيل» مسار الصراعات المعاصرة، وهم الذين يُطلق عليهم عادة وصف «الرقميين»، ومن بين هؤلاء ناشطة أوكرانية تستخدم «الفيسبوك» لجمع الأموال والإمدادات من أجل توفير الدعم المادي للقوات الأوكرانية المحاصرة في حرب ضد المجموعات الانفصالية المسلحة المدعومة من قبل روسيا، وموظف سابق في إحدى «منظمات إثارة الفتنة»، الذي اختلق ونشر أخباراً كاذبة، وكذلك «إليوت هيجينز»، الناشط والمدون البريطاني، الذي يقال إنه قد كشف الدعاية الروسية بشأن إسقاط طائرة مدنية ماليزية فوق أوكرانيا عام 2014. وفي كتابه الجديد: «الحرب في 140 حرفاً.. كيف أعادت وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل الصراعات في القرن الحادي والعشرين»، يسلط «باتريكاراكوس» الضوء على الحرب الموازية التي تجري على وسائل التواصل الاجتماعي، ولاسيما حملة التجنيد التي تقوم بها منظمات إرهابية، والتي يشكل عناصرها قوى مثيرة للقلق ومنخرطة في نوع جديد من الحرب، ألا وهي: «حرب الكلمات». ويرى المؤلف أن الانتصار في مثل هذه الحرب الافتراضية ربما بات أكثر أهمية من امتلاك أقوى الأسلحة التقليدية. ويحذر من أن «بيئة المعلومات الراهنة موبوءة، حيث نعيش في عالم تقل فيه أهمية الحقائق مقارنة بالروايات، بينما يتبادل الناس (صوراً تعبيرية) بدلاً من الخوض في نقاش جاد، وأضحت اللوغاريتمات تشكل رؤيتنا للعالم». وقد استغل «باتريكاراكوس» مهاراته الصحافية الاستقصائية لمقابلة أشخاص كانوا وراء حسابات مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولذا يزعم بصورة مقنعة أن تأثير أولئك الأفراد الذين يستغلون وسائل التواصل الاجتماعي قد يبدو أحياناً أكثر قوة من بعض المؤسسات. مواجهة عبر توتير ويلفت المؤلف إلى أن أية دولة تخوض حرباً تقليدية في زمننا هذا، لابد أنها ستواجه أيضاً العدو «عبر تويتر»، وكل هجوم يشنه الجيش في العالم الحقيقي سيقابل بهجمات مضادة على «يوتيوب». وكل انتصار على الأرض يمكن تقويضه عبر «الفيسبوك». ويؤكد أن «هذه ليست حال الحرب في المستقبل، وإنما هي حالها وما هي عليه في الوقت الراهن». ويقول، الكاتب في سياق الحديث عن موقع «بوليتيكو إيوروب»، الذي غطى اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2014: «إن الحرب المعاصرة هي حرب روايات». ويشير في «الحرب في 140» إلى كيفية محاولة روسيا التأثير على الموقف في أوكرانيا «بالمعلومات المغلوطة». وفي الولايات المتحدة، حاولت الحكومة أيضاً نشر روابط عبر الإنترنت «لمناهضة تنظيم داعش»، ولكنها واجهت أحياناً مقتضيات مراعاة القواعد الدبلوماسية وافتقرت إلى «شبكة التضخيم» التي تجعل أخبارها وحملاتها الدعائية تنتشر بشكل كبير. ومن بين الشخصيات الأخرى التي يسلط عليها الكتاب الضوء أيضاً «ألبرتو فيرنانديز»، الذي تم تعيينه في عام 2012 رئيساً للمركز الإعلامي الاستراتيجي لمكافحة الإرهاب، وفي ظل قيادته للمركز المؤسس حديثاً، نشر مقطع فيديو باللغة العربية وعنونه: «مرحباً في أرض داعش»! ويظهر الجرائم الفظيعة التي ارتكبها التنظيم ضد المسلمين، ويدعو من يخاطبهم بلغة ساخرة إلى الذهاب إلى أرض «داعش» وأن يتعلموا «أموراً مفيدة»، مثل «التفجير والصلب والقتل!». ويختتم المقطع بعبارة: «السفر ليس مكلفاً لأنك لا تحتاج إلى تذكرة عودة»!. غير أن «فيرنانديز» اصطدم بـ«التصويب السياسي» عندما حاول فريقه مواجهة دعاية «داعش» باللغة الإنجليزية، ويشير إلى أن الأمر بات محل انتقاد من الجميع عندما تم تقديم الفيديو باللغة الإنجليزية، وهو ما أدى إلى إغلاق إدارة أوباما للمركز في عام 2016، لأن مثل هذه المقاطع «لا تتوافق مع الذوق الأميركي». الدعاية والتجنيد ولا شك في أن الكتاب يكشف بتفصيل دقيق كيفية استخدام مواقع التواصل في الصراعات العالمية، من الدعاية والتجنيد اللذين غطتهما الصحف بشكل متكرر، إلى كيفية حشد التنظيمات غير الرسمية من أجل مواجهة تدقيق الحقائق عبر الإنترنت. وحكاية الأوكرانية «آنا ساندالوفا»، التي استغلت مجموعة على «فيسبوك» لتصبح «وزيرة حكومية افتراضية»، لتحل محل الجهاز البيروقراطي في الجيش، تكشف عن الكيفية التي يمكن بها استغلال وسائل التواصل بها في المستقبل، فقد نجحت في جمع أكثر من 1.3 مليون دولار لشراء نظارات رؤية ليلية واستوردت أزياء للجيش وسيارة إسعاف! ويأتي الكتاب في وقت ملائم تماماً ذلك أنه يناقش طريقة ترويج حملات المعلومات المغلوطة، وقد نجح في ذلك، ولاسيما أن الكونجرس الأميركي كان يساوره القلق تجاه كل تغريدة أو منشور على «فيسبوك»، خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية لوجود دواعي قلق من أي تأثير روسي محتمل. بذور الفتنة ويزعم المؤلف أن روسيا كان يمكنها هزيمة أوكرانيا عسكرياً، غير أن هدفها كان زعزعة استقرارها وليس هزيمتها. ويكرس فصلاً في كتابه لـ«منظمات زرع الفتنة»، ويروي فيه كيف يقوم الموظفون باختلاق تدوينات كاذبة لنشرها على المواقع الإخبارية الزائفة، في حملة لـ«ترويج الأكاذيب». وتلك الحملات والأخبار الكاذبة ليست مخصصة لحشد التأييد العالمي لروسيا، وإنما لغرس الشقاق وتفكك النسيج المجتمعي الغربي، ولإرباكه وتعطيله في النهاية. وتشكل هذه القضية نقطة محورية، وخصوصاً في ضوء القلق من محاولات روسيا التأثير في نتائج انتخابات بعض دول الغرب، بعد أميركا، والحديث عن تدخلها أيضاً في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «البريكسيت». وهذا التدخل المفترض لروسيا يخضع لتحقيق فيدرالي في الولايات المتحدة يشمل أيضاً شبهات بعلاقات بين روسيا وفريق المرشح دونالد ترامب. وتسمم هذه الشبهات ولاية الرئيس الجمهوري وقد منعت حتى الآن أي تحسن للعلاقات بين واشنطن وموسكو، على رغم أن ترامب وبوتين كانا يأملان الدفع بالعلاقات بين البلدين قدماً. وللمؤلف كتاب سابق بعنوان: «إيران النووية»، يسلط فيه الضوء على سعي إيران لتطوير أسلحة نووية، أما في كتابه الجديد هذا: «الحرب في 140 حرفاً»، فيواصل سعيه لتوضيح تطور وتفاعل الحرب وحملات الدبلوماسية العامة. ولكن على رغم خبرته الطويلة في الصراعات، إلا أنه يفتقر إلى فهم متعمق لكيفية عمل منصات مثل «فيسبوك» و«تويتر»، ودور البرامج الإلكترونية في تضخيم الرسائل ونشرها بصورة تلقائية. وعلاوة على ذلك، لم يتناول «باتريكاراكوس» أيضاً ما ينبغي أن تفعله شركات التكنولوجيا لمراقبة أو حذف المعلومات المغلوطة أو المضللة. وينهي كتابه بتحذير، من خلال مقارنة الوقت الراهن بالفترة التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى، إذ لم يكن أحد يرغب في الصراع، ولكن انزلقت الدول في براثنه في النهاية بسبب «خطأ في الحسابات». وربما يتقاسم البعض معه أيضاً وجهة النظر هذه، ولاسيما أنه خلال السنوات التي سبقت عام 1914، كانت هناك موجة هجرة جماعية، وانتقادات لها، ومحاصصات تجارية، وتكنولوجيا جديدة عمقت التواصل العالمي، بحسب المؤلف. ويكتظ كتاب «الحرب في 140 حرفاً» بتقارير ميدانية جاذبة، حول كيفية تغيير وسائل التواصل الاجتماعي لصور الحرب، ولذا فهو يستحق القراءة، وخصوصاً بالنسبة لأي شخص يسعى لفهم كيفية تغيير حملات المعلومات المغلوطة لكثير من المعطيات السياسية الدولية. وربما أن أصحاب المليارات في سيليكون فالي، الذين يقدمون الأدوات الرقمية لتمكن هذه الصورة الجديدة للحرب، سيكرسون بعض أموالهم الخيرية لتمويل «الدفاع الرقمي» عن الغرب. ومن دون استخدام مماثل ومضاد لوسائل التواصل الاجتماعي، فإن الغرب سيواصل خسارة حرب الروايات. وائل بدران الكتاب: الحرب في 140 حرفاً المؤلف: ديفيد باتريكاراكوس الناشر: بيسك بوكس تاريخ النشر: 2017