هل يمكن تحويل مدينة نظيفة إلى مدينة تتكدس في جنباتها القاذورات وتطفح في شوارعها المجاري؟ في الحقيقة يمكن ذلك تدريجياً، وقد تكمن الفئران في جحورها عقوداً طويلة حتى تُعلن عن نفسها، والخطوة الأولى في هذا التحوّل هي تغيير قناعات سكّان المدينة. يكفي أن يظهر نفرٌ يتحلّون بقدر كافٍ من الجهل بأهمية النظافة، متكئين على تراث يحترمه أهل المدينة، يمكن لهم تفسيره بطريقة تدعم توجهاتهم، ويكون لهؤلاء صوت مسموع ولسان طويل، مع شيء من التبجّح بمنافع القذارة، وقدرة على تحوير الحقائق المتعلقة بالنظافة، كأن تُتهم النظافة بأنها السبب في زيادة الأعباء المالية على السكّان، مع عدم اكتراث بكلامهم من قِبل المؤمنين بالنظافة، والمشتغلين بها، والعاملين في قطاعاتها.. وبهذه الخلطة، تبدأ عملية تحويل المدينة النظيفة إلى مزبلة كبيرة! بعد أيام من بدء الدعوة إلى معاداة النظافة، سيلتف حول دعاتها أفرادٌ كانت لديهم شكوك بشأن أهميتها، وسيلحق بهم حشد آخر كانت النظافة من الأشياء غير المفكّر بها بالنسبة لهم، ثم وجدوا أن ثمة أشخاصاً يتحدثون بالسوء عنها، ثم سيلحق بهؤلاء الأشخاص جمعٌ يرى أن حجج دعاة معاداة النظافة قوية إلى درجة أن أحداً لم يردّ عليها. عدم الرد قد يكون لأكثر من سبب، فبعضهم يرفع شعار «عليّ بنفسي»، وبعضهم يخشى المواجهة، وبعضهم يحشّم نفسه من الجدل مع الأغبياء، وبعضهم لديه اعتقاد بأن الصواب فطرة، وبأنه يُوجد ويستمر من تلقاء نفسه، وليس في حاجة إلى تدخلٍ من أحد، وهكذا يلتزم الجميع جانب الصمت، لكن صمتهم يُفسّر بأنه ضعف حجة. وقبل مرور سنوات قليلة، سيكون للمعادين للنظافة رموز وجمهور، مع انضمام الشباب الجدد إليهم، ففي مرحلة تكوين القناعات، وجد هؤلاء أن لأعداء النظافة صوتاً عالياً، وأن لرموزها صولات وجولات، بينما من يفترض أنهم من دعاة النظافة، يكتفون بتنظيف الشوارع، وتوزيع أدوات النظافة، وحراسة القوانين التي تنظم عملية النظافة في المدينة. ستبقى المدينة فترة من الوقت محافظة على قيمها، فالشوارع نظيفة، والمباني نظيفة، وهناك الكثير من الأشخاص الذين يراعون النظافة، كما أن قوانين النظافة ما تزال نافذة، والأجهزة المعنية تعمل بكفاءة، والمناهج التعليمية تشجع على النظافة، وليست ثمة تجاوزات على النظافة، كما أن العالم من حول المدينة يعلي من شأن النظافة، وثمة اختراعات مهمة في مجال النظافة، وابتكارات، ومشاريع. لم يتغير شيء حتى الآن إلا العقول، وتدريجياً تتحول الأفكار إلى وقائع، فالمعلم يشرح مادة النظافة وفي الوقت نفسه يسفّه محتواها، والأهالي يثنون أولادهم عن التقدم للعمل في مجالات العناية بالنظافة، والعاملون في هذه المجالات يتشككون في جدوى أعمالهم، والناس في الشوارع صاروا أقل اهتماماً بمراعاة النظافة، خصوصاً أن الجهات المعنية بمراقبة النظافة باتت تغض الطرف عن المخالفات. والمرحلة التالية، بعد سنوات أخرى، الأفكار المعادية للنظافة تصل إلى النخب، سواء المخضرمة التي اهتزت قناعاتها، أو النخب الجديدة التي تأسست على أفكار معادية للنظافة، أو الانتهازية التي تحترف ركوب أي موجة صاعدة، وستدخل الأفكار المعادية للنظافة تدريجياً إلى المناهج التعليمية، ووسائل الإعلام، والفن، والأدب، ثم في النهاية ستصدر القوانين التي تجرّم النظافة، وحينئذ ستخرج الفئران إلى العلن!