اتخذ ترامب كرئيس قرار القدس، أي ساهم فيه ثم ذيَّله بإمضائه. لكن من صنع هذا القرار، أي شكَّله ودفعه؟ هناك فرق بين اتخاذ القرار وصناعته، بين المُعلن والمخفي الذي لا تراه العين لأول وهلة. «جاهل وأحمق»، هكذا وصف توماس فريدمان، الصحفي المخضرم في «نيويورك تايمز»، قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب. وفي محاولة مستميتة لتبرير هذا القرار، قال وزير الخارجية الأميركي تيلرسون إن القرار هو استجابة لرغبة الشعب الأميركي، وهو يُشير بذلك إلى قرار الكونجرس في عام 1995 الذي يحث الإدارة الأميركية على نقل السفارة. الكونجرس فعلاً هو الهيئة التشريعية، وهو بالتالي يُمثل الشعب الأميركي، لكننا نعرف أيضاً جهل معظم النواب بتعقيدات السياسة الخارجية عامة، واعتمادهم بالنسبة للشرق الأوسط على اللوبي الصهيوني لكي لا يفقدوا مراكزهم. وكان عدم حيادية هذا الكونجرس من أهم الأسباب التي جعلت الرؤساء الأميركيين الثلاث -الجمهوري جورج بوش والديمقراطيين بيل كلينتون وباراك أوباما- لا يستمعون للكونجرس في هذا الصدد ولمدة 22 عاماً. يعلم تيلرسون أيضاً أن العديد من موظفي وزارته -خاصة ذوي الخبرة في الشرق الأوسط- عارضوا هذا القرار، وأكثر من ذلك، فإن مسحاً للرأي العام الأميركي أعلنه معهد بروكنجر الشهير من واشنطن يُبين أن 63? من هؤلاء الأميركيين ضد نقل السفارة إلى القدس، بينهم 44? من حزب ترامب. وزير الخارجية تيلرسون يعرف هذه الحقائق وحتى أكثر، لكنه اختار مجاملة رئيسه بدلاً من نصحه. لكن لماذا يصب ترامب الزيت على النار في منطقة من أشد مناطق العالم توتراً؟ قال البعض إنه يحترم تعهداته الانتخابية، لكن العديد من المرشحين يقدمون الوعود الانتخابية عن عدم معرفة بالحقائق وضبابية في الموقف، وبالتالي يتراجعون عن مثل هذه الوعود بعد الوصول إلى السلطة. وبالنسبة للقدس تحديداً حدث هذا في كندا في السبعينيات من جانب حزب المحافظين، الذي فاز مرشحه ليصبح رئيس الوزراء، لكنه شكل بعد ذلك لجنة تطوف بالمنطقة، وطبقاً لاستخلاصات هذه اللجنة أعلن أن تنفيذ وعده بنقل السفارة الكندية إلى القدس لن يكون مفيداً بالمرة. نستطيع ذكر العديد من الأسباب وشرحها، لكن أهمها وأكثرها فائدة واحتمالاً في رأيي يجب أن يتجه صوب تأثير «جاريد كروشنر» على ترامب، فكروشنر هو زوج ابنة ترامب وذراعه اليمنى في البيت الأبيض، وقد وضعه ترامب على رأس فريقه للشرق الأوسط الذي جاب المنطقة أخيراً للإعداد لتسوية ما حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وعند تعيين كوشنر في البيت الأبيض اعترض كثيرون بسبب عدم خبرته السياسية، والتي تتلخص في كونه زوج ابنة الرئيس. والحقيقة أنه فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فإن هذا الشاب ذا الـ36 عاماً لا تنقصه الخبرة بالمنطقة فحسب، ولكنه أيضاً متحيز لإسرائيل. فهو يهودي وصل والداه إلى الولايات المتحدة بعد نجاتهم من المحرقة الألمانية، وقد تركزت نشأته على حماية اليهود أينما كانوا والوقوف بجانبهم. حتى أنه أهله اعترضوا على زواجه من إيفانكا ترامب، رغم اعتناقها اليهودية، وذلك لأنها لم تكن يهودية عند المولد. وبالإضافة إلى أنه زوج ابنة الرئيس، فهو يُشارك ترامب في فلسفته الحياتية، وقد ورث عن والده ثروة عقارية تماماً مثل ترامب، وتملك أسرته أحد الأبراج الأكثر شهرة في نيويورك، قريباً من برج ترامب. لذلك يُنصت ترامب كثيراً إلى كوشنر، لأنهما يتكلمان اللغة نفسها تقريباً ويطبقان الفلسفة نفسها في نظرتهما للحياة. ومن المؤسف طبعاً أن تُدار السياسة الأميركية في الشرق الأوسط حالياً بمثل هذه العلاقات والتحيزات الشخصية. لذا ينبغي للعرب التنسيق مع العديد من الأميركيين الذين بدورهم يعترضون على إدارة سياسة بلادهم بهذه الطريقة.