حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الأربعاء الماضي عن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، اتجهت أنظار كثير من المراقبين إلى صهره الشاب جاريد كوشنر، المكلف بملف الصراع في الشرق الأوسط، على اعتبار أن هذه الخطوة التي أقدم عليها ترامب تجعل فرص نجاح وساطة كوشنر للسلام في حدود الصفر، تقريباً. على أن الأسباب الأخرى المحتملة لفشل وساطة كبير مستشاري البيت الأبيض، ورجل الأعمال الشاب، كثيرة وسابقة أيضاً على قرار ترامب، إذ لم يكن يتمتع بأي مؤهلات لأداء هذه المهمة الدبلوماسية والسياسية الدولية شبه المستحيلة، لوضع حد لصراع امتد لقرابة قرن، وما زال يزداد تعقيداً، واستعصاء على الحل. ولعل مؤهل كوشنر الوحيد لأداء هذه المهمة هو الثقة التي يحظى بها عند رئيسه. غير أن الثقة، من جانب واحد، ليست أيضاً هي كل شيء في صراع متشعب الأبعاد ومتعدد الأطراف. ولكن قبل الدخول في التفاصيل، من هو كوشنر نفسه، الإنسان، ورجل الدولة.. السيرة والمسيرة؟ ولد جاريد كوري كوشنر يوم 10 يناير 1981 في بلدة ليفينغستون بولاية نيوجيرسي، التي كان والده شارلز كوشنر أحد كبار رجال المقاولات والمطورين العقاريين فيها. وينحدر من أسرة يهودية أورثوذكسية، حيث يقال إن إحدى جداته كانت من الناجين من الهولوكوست، وقد تمكنت من الاستقرار في أميركا التي وصلتها على متن سفينة مهاجرين كان معظم ركابها من اليهود الألمان الهاربين من أهوال النازية، وقد تم تسفير معظمهم ليعودوا من حيث أتوا. وقد تلقى جاريد كوشنر تعليمه الأول في مسقط رأسه، وتحصل على بكالوريوس علم اجتماع من جامعة هارفارد سنة 2003، وماجستير مهني في القانون وماجستير إدارة أعمال من جامعة نيويورك سنة 2007. وفي سنة 2009 تزوج بإيفانكا ترامب، الابنة الكبرى لدونالد ترامب الرئيس الأميركي الخامس والأربعين. ومنذ ذلك التاريخ تحول كوشنر إلى نجم في وسائل الإعلام الأميركية، مع زوجته، حيث باتت أخبارهما تتصدر الصفحات الأولى في المطبوعات المهتمة بحياة المشاهير. بل إن الإعلام الأميركي وضع للزوجين كوشنر اسماً مركباً من اسميهما معاً صار علماً عليهما هو «جيفانكا» J-Vanka. وكان كوشنر قد تعرف على إيفانكا منذ سنة 2005، ولكنه اضطر لقطع أي صلة بها في سنة 2008 تحت ضغوط من عائلته اليهودية الأورثوذكسية، لكونها غير يهودية، وهو ما دفع ابنة ترامب للإعلان في النهاية عن تحولها إلى الدين اليهودي، ما سمح لكوشنر بالارتباط بها رسمياً، منذ ثماني سنوات، ولهما الآن ثلاثة أطفال. وكان نجم كوشنر قد بدأ يلمع في عالم الأعمال منذ وقت مبكر من حياته، فقد انخرط كوالده في القطاع العقاري، وهو مالك شركة كوشنر للتطوير العقاري Kushner Properties كما يملك أيضاً شركة منشورات «نيويورك أوبسيرفر». وفي عهد أوباما تم إرسال والده شارلز كوشنر للسجن بتهمة التهرب الضريبي، وممارسات مالية غير سليمة، وكان المدعي العام الذي يقف وراء سجن كوشنر الأب هو كريس كريستي، الذي سيصفّي معه جاريد الحساب فيما بعد خلال حملة صهره، حيث عمل على استبعاده من كل شيء رغم كونه من أشد مؤيدي ترامب. وقد تولى جاريد كوشنر بشكل مباشر إدارة ثروة والده الطائلة بعد سجنه، ويقول أنصاره إنه بفضل قدراته التجارية المتميزة كان هو أول من حقق للأسرة اختراقات عقارية في عوالم نيويورك، وخاصة بعدما جازف ببيع 22 ألف شقة مملوكة لعائلته في نيوجيرسي لكي يشتري في سنة 2007 البرج الأغلى في تاريخ الولايات المتحدة: رقم 666 الشارع الخامس، الذي دفع فيه 1,8 مليار دولار. ولكن مع نشوب الأزمة المالية في السنة التالية لذلك واجهت عائلة كوشنر مصاعب مالية هائلة، وهو ما دفعه للاستعانة بممولين خارجيين، كما باع أيضاً نصف طوابق البرج بأسعار أقل بكثير من ثمن الشراء. وفي عام 2016 انخرط في مشروعات عقارية كبرى بمنطقة بروكلين، وقد ضخ فيها ملياري دولار. ومع أن جاريد كوشنر قد دعم الحزب الديمقراطي خلال السنوات السابقة على ترشح صهره ترامب الجمهوري، إلا أنه انخرط بسرعة في حملة هذا الأخير عند تشكيل فريقها سنة 2016، وبرز دوره في سياق الحملة الانتخابية الرقمية، وخاصة لجهة تمويلها. ولهذا دلالة مهمة قد تفسر سبب تردد اسمه في الشكوك المثارة حول تنسيق ما مع الروس، من جانب حملة ترامب، لاستهداف منافسته هيلاري كلينتون، وهو موضوع ما زال بين أيدي المحققين الأميركيين حتى الآن، ويتوقع أن تكون له تداعيات محسوسة في المستقبل. وفي سياق الحملة تولى كوشنر تنظيم الزيارة المفاجئة للمرشح ترامب إلى مكسيكو، بهدف استمالة بعض الناخبين «الهيسبانيك»، وفي الوقت نفسه تولى أيضاً إعادة ترميم وإصلاح علاقة ترامب مع المجموعة اليهودية الأميركية، وخاصة بعد نشر هذا الأخير لتغريدة فسرت على أنها فيها نفَساً معادياً للسامية. وكان لكوشنر أيضاً دور حتى في التأثير على اختيار تشكيلة حملة المرشح ترامب، ودعم الحملة مالياً بشكل كبير، إلى أن فاز صهره الذي عينه في الحال كبير مستشاري البيت الأبيض، وهي وظيفة كبيرة بكل المقاييس على خبرة كوشنر وسنه ومؤهلاته السياسية والإدارية. ومنذ أعمال فريق انتقال السلطة، ثم دخول ترامب البيت الأبيض، ظل الثنائي «جيفانكا» طاغي الحضور في صدارة المشهد الإعلامي للإدارة الجديدة، إلى أن جاء كبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي في آخر شهر يوليو الماضي، وفرض قواعد اشتباك سياسي وإداري صارمة، أعادت نوعاً من الانضباط للمشهد حول الرئيس الجديد، وحدّت من الحضور الطاغي في الفضاء العام لمحيطه الأسري وفي مقدمة ذلك ابنته المدللة إيفانكا وزوجها كوشنر. ولكن الأضواء لم تنحسر عن كوشنر مع ذلك حيث بقي تحت دائرة الضوء بسبب تكليفه بتسيير ملف صراع الشرق الأوسط، وهو خيار أقدم عليه ترامب، ولقي انتقادات كثيرة، ليس فقط بسبب قلة خبرة كوشنر، وصغر سنه، وشدة تعقيد هذا الصراع الذي ظل لأجيال مقبرة لسمعة عتاة الدبلوماسيين المخضرمين، حيث عجز حياله دبلوماسيون كبار مثل كيسنجر، وجورج ميتشل، وبالتالي فمن باب أحرى، ألا يتمتع كوشنر بالمؤهلات الكافية لحل هذا الصراع المزمن. ولعل أقل ما يمكن قوله عن وساطة صهر ترامب هو أنها وساطة بمواصفات غير قياسية، وذلك أيضاً لانتفاء الحياد، حيث استقبلت الصحافة تعيينه في هذه المهمة بسيل من الأدلة والقرائن على استحالة وقوفه موقف الوسيط النزيه بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وأقل ذلك مثلاً أن مؤسسة أسرة كوشنر التي يتولى جاريد رئاستها قدمت تبرعاً بمبلغ 325860 دولاراً لمنظمة «أصدقاء جيش الدفاع الإسرائيلي»، وهي منظمة داعمة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. ولذا رأى مراقبون كثر أن صلات كوشنر مع تلك المنظمة تحكم على مهمته بالفشل مسبقاً. وبين سنتي 2011 و2013 قدمت مؤسسة كوشنر أيضاً تبرعات بقيمة 58500 دولار لجهات داعمة للاستيطان الإسرائيلي، من بينها 38 ألفاً لمنظمة «أميركيون أصدقاء لبيت إيل»، وهي مستوطنة تعتبر من محاضن الغلاة الرافضين لعملية السلام برمتها. ومع أن ثمة ما يشبه الإجماع لدى الصحافة الأميركية والمراقبين الدوليين على عدم أهلية كوشنر لإدارة جهود تسوية هذا الصراع المزمن المعقد، فقد ظل ترامب متمسكاً به، حيث صرح لصحيفة نيويورك تايمز قائلاً: «أريد أن أؤكد أنه يعرف [الإشكالية] بشكل جيد. فهو يعرف المنطقة، والناس، ويعرف الفاعلين»! غير أن زيارة كوشنر في 21-6-2017 على رأس وفد أميركي للأراضي الفلسطينية، ولقائه بالرئيس محمود عباس، زاد الشعور بانتفاء صفة الحياد في وساطته، حيث كانت جلسة محادثات مشدودة، وبلغتين مختلفتين، فالجانب الفلسطيني كان يهمه سماع جديد الطرح الأميركي للدفع بعملية السلام، في حين كان هم كوشنر توصيل شكاوى الإسرائيليين من صرف السلطة مرتبات لأسرى فلسطينيين تتهمهم إسرائيل بالإرهاب. على أن الانحياز الشديد للجانب الإسرائيلي، وقلة الخبرة، ليسا هما مشكلة وساطة كوشنر الوحيدة، بل إن خلفيته كرجل أعمال شاب في مجال العقارات، وكذلك خلفية رئيسه، يخشى أن تدفعهما إلى رؤية تبسيطية للصراع، ووضعه في سياق عقاري، غير سياسي، ومن ثم القفز على أساسياته الجوهرية والقوانين الدولية المتصلة به، تماماً كما فعل ترامب يوم الأربعاء الماضي بإعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما يشكل في نظر كثير من المراقبين ضربة استباقية قاضية لأية فرص كانت ممكنة أمام وساطة يفترض في كوشنر أن يجترحها، وقد تتوافر له كل مقومات أدائها باستثناء الحياد، وربما أيضاً الحنكة والحكمة وبُعد النظر. حسن ولد المختار