لا يمكن فهم روسيا من دون معرفة أنها أكبر دول العالم بالمساحة، وتبلغ نحو 17 مليون كيلومتر مربع، أكبر مرتين من ثاني أكبر دولة في العالم كندا، وأكبر سبعين مرة من «بريطانيا». تذكر ذلك «الإنسكلوبيديا البريطانية» التي تقرُّ بأن حجم روسيا كان دائماً أساس قوتها الهائلة الكامنة وضعفها في آن معاً. فجغرافيتها الطبيعية الجبارة ومناخها البارد القارص (إذ تعد أكثر البلدان برودة خارج القطب الشمالي)، لعبا دوراً أساسياً في تاريخها، وغالباً ما يشار إلى «جنرال الشتاء الروسي» الذي هزم جحافل غزو جيوش نابليون وهتلر. وعلى روسيا التي تضم 11 منطقة توقيت عالمية، حراسة حدود طولها 65 ألف كيلومتر، منها نحو 38 ألف كيلومتر ساحلية، وتأمين الاتصالات بين سكانها البالغ عددهم 146 مليون نسمة، منتشرين على مساحة تعادل ثُمن مساحة الكرة الأرضية المأهولة. وهذا يفسر تحول روسيا العجيب، الذي رأيته رؤيا العين من الشيوعية الملحدة إلى الدين الأرثوذوكسي. فانهيار تنظيمات «الحزب الشيوعي السوفييتي» جعل «موسكو» تعتمد في اتصالاتها على الهياكل الارتكازية للكنيسة الأرثوذوكسية. وهذا سر «اللغة السوفييتية المتشدة» لراعي الكنيسة البطريرك «كيريل»، والنعومة السمحة للرئيس «بوتين» الذي ينحني لتقبيل الأيقونات! وأطول أنهار أوروبا، «الفولغا»، يجري في روسيا، التي تملك نصف الاحتياطيات العالمية للمياه العذبة، وفيها أكبر بحيرات العالم («لادوغا») وأعمقها («البايكال»)، وهي تملك أكبر الاحتياطيات العالمية من المعادن وموارد الطاقة، وأكبر مستودع لأسلحة الدمار الشامل. وما تزال روسيا اليوم كما قال عنها المستشار الألماني «مترنيخ» في القرن التاسع عشر: «روسيا أقوى مما نتصور، وأضعف مما نتصور». وتعثر «الإنسكلوبيديا البريطانية» في الجغرافيا الطبيعية لروسيا على «الدكتاتور ستالين». فالفصول الزراعية القصيرة، ستة أشهر مقارنة بتسعة أشهر في أوروبا الغربية، فرضت على الفلاحين الروس «الزراعة الانفجارية» خلال الفصول الدافئة القصيرة. وكان الفلاحون يعرفون أن الطريقة الوحيدة لإكمال الأشغال الضرورية خلال الفترة المحددة، هي العمل بصورة جماعية، والعيش المشترك للعوائل. وهذا أصل برنامج «المزارع الجماعية»، الذي فرضه ستالين في ثلاثينيات القرن الماضي، وحقّق به «الثورة الصناعية» التي فشلت فيها روسيا القيصرية على مدى قرون، فيما هيأت لأوروبا الغربية القفزة الكبرى. والجغرافيا القصوى لروسيا، ومناخها الأقصى، يصنعان تاريخها المكتظ بأحداث قصوى تفسر لنا لماذا تحتفي روسيا الحالية، ولا تحتفي، بمرور مائة عام على ثورتها التي «هزت العالم في عشرة أيام» حسب عنوان كتاب الكاتب الأميركي «جون ريد». آنذاك كان الفيلسوف الروسي الوجودي «بردياييف» يكتب: «أمر رهيب حدث لروسيا، لقد سقطت في متاهة مظلمة، وأخذ يبدو لكثيرين أن روسيا الموحدة العظمى لم تكن سوى وهم. ولا يمكن بسهولة رصد علاقة حاضرنا بماضينا». والمفارقة أن يوصي الزعيمُ الروسي الحالي بوتين حكامَ الأقاليم بقراءة كتاب «روح الثورة الروسية»، الذي نشره «بردياييف» عام 1918 وتبلغ وطنيته الروسية حد اعتبار الروح الروسية الأممية المعادية للوطنية الروسية روسية بالأحرى! و«روسيا تكرر نفسها، فيما يبدو للنظرة السطحية تحوّل لا مثيل له في راديكاليته. فكثير من الماضي المألوف يظهر بمظهر مختلف، والنظرة الأعمق تجعلنا نتعرف على الروح الثورية لروسيا القديمة، التي تضمنها ِإبداعُ كتابها العظام شياطينَ استولت منذ أمد بعيد على أعماق الشعب الروسي». وينطلق بردياييف في بحثه من «غوغول»، مؤلف رواية «المفتش العام»، و«تولستوي»، مؤلف رواية «الحرب والسلام»، و«دستوييفسكي» مؤلف رواية «الأخوة كارمازوف»، حيث يدعو الأخُ الأكبر، وهو في حضرة الموت، أخاه الأصغر: «لا تبكِ، نحن نعيش جميعاً في الفردوس، لكننا لا نريد معرفة ذلك، وإذا أردنا معرفته، فسيعمُّ الفردوسُ غداً العالم كله»!