دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً العلاقات الأميركية التركية من سيئ إلى أسوأ، بعد أن زعم أن «جواسيس» تسللوا عبر البعثات الأميركية في تركيا. وقال: «إن تركيا لا تعتبر أن السفير الأميركي لدى أنقرة (جون بوس)، ممثلاً شرعياً للولايات المتحدة». ومن غير المسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين أن تعلن أنقرة أنها لم تعد تعترف بسفير واشنطن لديها. وبذلك، صعّد الرئيس التركي أزمة دبلوماسية «صاعاً بصاع» بدأها الشهر الماضي، عندما أعلنت السفارة الأميركية أن الولايات المتحدة باتت مضطرة لـ«إعادة تقييم التزام حكومة تركيا تجاه أمن منشآت البعثة الأميركية وموظفيها»، وبناء على ذلك لن تقوم باستخراج تأشيرات أميركية لغير المهاجرين. وبالطبع، كان القرار رداً على توقيف «ميتين طوبوز»، وهو موظف أميركي متعاقد مع «إدارة مكافحة المخدرات» الأميركية في العاصمة التركية منذ سنوات طويلة، ولكن اتهمته أنقرة بدعم منظمة «فتح الله جولن الإرهابية»، التي تُحملها الحكومة التركية مسؤولية الانقلاب الفاشل في يوليو عام 2016. وردّت الحكومة التركية بالمثل على رفض الولايات المتحدة استخراج التأشيرات، قبل أن يتابع أردوغان بتصريحاته الهجومية. وتنضم قضية «طوبوز» إلى قائمة طويلة من الخلافات المتزايدة التي شكّلت تحديات أمام العلاقات الأميركية مع «تركيا أردوغان» خلال الأعوام القليلة الماضية. وقد أضحى من الواضح الآن أن العلاقات بين أنقرة وواشنطن ليست علاقات صداقة أو شراكة بقدر كونها علاقات بين دولتين متخاصمتين ومتنافستين استراتيجيتين، ولا سيما في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من ذلك، فإنه قد يكون من الخطأ زعم أن سبب العلاقات المتوترة بين واشنطن وأنقرة هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. والواقع هو أن أميركا وتركيا تتجهان للتصادم منذ أعياد «الكريسماس» في عام 1991، عندما تفكك الاتحاد السوفييتي. 3 حقائق رئيسية وقد أكدت تحليلات ومقالات كثيرة بشأن تركيا خلال العقد الماضي تعزيز أردوغان لسلطته السياسية، وعلى رغم أن معظم تلك التحليلات كانت دقيقة بشكل عام، فإنها تميل إلى إغفال ثلاثة عوامل مهمة في السياسة والسياسات الخارجية التركية. العامل الأول: هو أنه على رغم أن أردوغان هو صانع القرار المركزي، فإن أفكاره بشأن القوة التركية وعدم ثقته في الغرب لديها تأييد واسع بين الأتراك، وذلك لأسباب تاريخية كثيرة. والعامل الثاني: هو أن الولايات المتحدة وتركيا لا تتقاسمان قيماً ولا مصالح. وأخيراً: هو أن العالم قد تغير كثيراً منذ فورة التحالف بين تركيا وأميركا، قبل زهاء ربع قرن مضى. وفي ضوء الديناميكيات الدولية المتغيرة، يبدو أن العلاقة الأميركية مع أي حزب حاكم تركي مقبول شعبياً ستكون على الأرجح متوترة في المرحلة الراهنة. وإذا أصبح حزب المعارضة الرئيس في تركيا «حزب الشعب الجمهوري» في السلطة، على سبيل المثال، فسيكون هناك قدر كبير من التوتر في العلاقات الأميركية التركية. وبالطبع، سيبدو الأمر مختلفاً، لكن «العلاقة الاستراتيجية» أو «الشراكة النموذجية» لن تكون لها معنى ولن تنطوي على أكثر مما هي عليه الآن. فعلى سبيل المثال، اتخذت قيادة «حزب الشعب الديمقراطي» موقفاً مؤيداً لبشّار الأسد في سوريا، وتعارض بقوة القومية الكردية بقدر حزب «العدالة والتنمية» الذي ينتمي إليه أردوغان، إن لم يكن أكثر منه. وبدرجات متفاوتة، سعت معظم الأحزاب في تركيا إلى التعامل مع إيران على مرّ السنين. وفي كثير من الأحيان، أربك ذلك الواقع المسؤولين الأميركيين، الذين يميلون إلى العمل من خلال مجموعة من الأفكار التي عفَّى عليها الزمان بشأن العلاقات مع تركيا، إذ لا تزال السياسات الأميركية ترتكز على أسطورة رومانسية قديمة ترجع إلى الحرب الباردة مفادها أن الأميركيين والأتراك يقفون جنباً إلى جنب في المعركة الأيديولوجية الكبيرة ضد الاتحاد السوفييتي، غير أن الأساطير التي ترجع إلى الحرب الباردة تغفل واقع أنه، من دون تهديد الاتحاد السوفييتي المشترك، لم تعد هناك أمور كثيرة تربط واشنطن وأنقرة معاً. والعلاقة الثنائية بينهما لا ترتكز على الصداقة أو الثقة أو القيم، وإنما على ضرورات الصراع الذي تخوضه الدولتان بصورة مشتركة. معطيات جديدة وحتى بعد أن نزع الحرس الروسي مطارقهم ومناجلهم من أعلى «الكرملين» قبل كل تلك السنوات الطويلة، لا يزال مسؤولون أميركيون يزعمون على نحو خاطئ أن تركيا لا تزال تقف في صفّ الشركاء الأميركيين. وفي بداية تسعينيات القرن الماضي، اعتقد البعض في مجتمع السياسة الخارجية الأميركي أن تركيا مؤهلة بصورة متفردة لإرشاد دول آسيا الوسطى، التي كانت قد نالت استقلالها حديثاً في ذاك الوقت، والتي يتقاسم مواطنوها روابط لغوية وثقافية مع الأتراك، على طريق الحكم الديمقراطي. وفي منتصف ونهاية ذلك العقد، اعتبر خبراء السياسة الخارجية الأميركية أنقرة بمثابة قاطرة للأمن والسلام في الشرق الأوسط. ومؤخراً، أشاروا إلى تركيا باعتبارها «نموذجاً» للدول العربية الساعية إلى بناء مجتمعات مزدهرة وديمقراطية، غير أن تلك المشاريع كافة ثبت فشلها، وذلك لأنها بالغت في تقدير القدرات التركية، والتقليل من شأن الموروثات التاريخية من الهيمنة العثمانية، وأساءت قراءة السياسة المحلية التركية، والرؤية العالمية للقيادة الحالية. وفي ضوء ذلك الفشل، تفككت أواصر العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا. وعلى رغم من أن تفاصيل كل من تلك المشاريع تنطوي على أهمية كبيرة، لكن كان هناك شيء آخر محوري أسهم في فشلها. ويتعلم مجتمع السياسة الخارجية الأميركية ببطء أن كثيراً مما كان يعتقده بشأن تركيا لم يعد كما كان عليه. فالقيادة التركية، ومن بينهم القيادات العسكرية، ليست ديمقراطية ولا موالية للغرب، بل إن لديها في حقيقة الأمر شكوكاً عميقة تجاه الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة. وثمة فكرة شائعة خاطئة بأن العلاقات بين واشنطن وأنقرة كانت دائماً دافئة، ومماثلة للحلفاء التقليديين مثل البريطانيين أو الألمان، وبالطبع كانت هناك علاقات عمل طيبة بين الضباط الأميركيين والأتراك في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، لكن تلك العلاقات كانت دوماً مشوبة بغياب الثقة، النابعة من الجانب التركي المفعم بالقومية في كثير من الأحيان والمتشكك في النوايا الأميركية، ولا سيما تجاه الأكراد والتزام واشنطن بالأمن التركي. ولم يكن الضباط «موالين للغرب بقوة» مثلما كانت تشير تقارير صحافية كثيرة على مر السنين، وإنما كانوا موالين لتركيا أولاً وأخيراً. وينطبق ذلك أيضاً بشكل كبير على القيادة السياسية هناك. أهداف مشتركة وتكتيكات متباينة والأكثر أهمية، أن قادة تركيا لا يتقاسمون اهتمامات الولايات المتحدة. وبالطبع، تعارض كل من أنقرة وواشنطن من حيث المبدأ انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتؤيدان السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتحاربان الإرهاب، وترغبان في سقوط الرئيس السوري بشار الأسد. وعلى رغم ذلك، تبدو الوصفات الأميركية والتركية لتحقيق تلك الطموحات بعيدة كل البعد بعضها عن بعض بدرجة تجعل من الصعب تصديق أن تلك الأهداف حقاً مشتركة. وفي كل حالة، يمكن للمسؤولين من كلا الطرفين التعبير عن مدى إضعاف الطرف الآخر لجهوده في تلك المجالات. فمن وجهة النظر الأميركية، أضعف دفء العلاقات من حين إلى آخر بين تركيا وإيران جهود احتواء تطوير طهران لأسلحة نووية، بينما تعتبر أنقرة مذنبة بتمكينها المتطرفين في سوريا ودعمها لحركة «حماس» الفلسطينية المسلحة. وتسبق تلك التوترات عصر أردوغان وصعود حزب «العدالة والتنمية». وفي نهاية تسعينيات القرن الماضي، وبداية العقد الماضي، على سبيل المثال، غضب الأتراك بقوة من العقوبات الدولية على العراق. وبالطبع، كانت هناك اختلافات خلال العقود الماضية بخصوص الغزو التركي لقبرص في عام 1974، وما لحقه من حظر الأسلحة الأميركية، والأمن في بحر إيجه. التعاون مع الخصوم! وقد تغير الوضع بشكل كبير، لدرجة أن تركيا، عضو الناتو، تتعاون في سوريا مع روسيا، التي يسعى قادتها إلى إضعاف التحالف الغربي، بينما تحارب الولايات المتحدة تنظيم «داعش» الإرهابي إلى جانب القوات الكردية السورية، التي يعتقد الأتراك أنهم جزء لا يتجزأ من منظمة إرهابية تشنّ حرباً ضد أنقرة منذ عام 1984، وقد تقلّصت العلاقة الاستراتيجية في الوقت الراهن إلى مجرد دخول الأميركيين إلى قاعدة «إنجرليك» الجوية التركية، التي تطلق منها الولايات المتحدة وحلفاؤها عمليات عسكرية ضد تنظيم «داعش» الإرهابي. ومن حين إلى آخر، يهدّد الأتراك بسحب التصريح باستخدام المنشأة في ذلك الغرض. وتشي الحقيقة المؤكدة أنه أصبح من السهل نسبياً لكل من الدولتين أن تتعاون مع خصوم الدولة الأخرى، بأن توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا ليس مرتبطاً بدرجة كبيرة برؤية أردوغان أو تقليص العلاقات في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وإنما بسبب الطريقة التي أعيد بها ترتيب السياسة الدولية خلال ربع القرن الذي تلا الحرب الباردة. ومنذ أن بدأت «حرب التأشيرات»، بدأ الصحافيون يتساءلون حول ما إذا كان الخلاف بين واشنطن وأنقرة سيتصاعد. وبالطبع، ليس ثمة طريقة لمعرفة ذلك، وإن كانت أمور كثيرة ستعتمد على الحسابات السياسية الداخلية لرجب طيب أردوغان. وفي ضوء مخزون معاداة النهج الأميركي في تركيا، فإن الرئيس التركي يستمد منافع سياسية من الخلاف مع واشنطن. غير أن السؤال الأبرز هو: كيف ستدير الإدارة الأميركية تحول تركيا من شريك استراتيجي إلى علاقة تعترف بأهمية تركيا كشريك في السابق وخصم في الحاضر؟ وإذا واصل صنّاع السياسة الأميركيين في النظر إلى تركيا من خلال عدسات الحرب الباردة، فإنهم سيواصلون مراوحة أماكنهم، ويحاول الدبلوماسيون الأميركيون عبثاً تحفيز القيم المشتركة بين تركيا والولايات المتحدة، بينما يتعرض المواطنون الأميركيون وموظفي الإدارة الأميركية للسجن والانتهاكات. لقد آن أوان الإقرار بأن العالم قد تغير، وكذلك العلاقة الأميركية التركية ستيفن كوك: زميل «إيني إنريكو ماتي» لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا التابع لمجلس العلاقات الخارجية. وكتابه الجديد: «فجر كاذب.. الاحتجاجات والديمقراطية والعنف في الشرق الأوسط الجديد». ترجمة: وائل بدران يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»