العبارة التي قالها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات للمسلحة، في إحدى زياراته لمعسكرات تدريب منتسبي الخدمة الوطنية في الدولة، والتي جاء فيها: «حماية الوطن والدفاع عنه فرض على أبناء الوطن لم يبدأ مع قيام دولة الإمارات، بل منذ وجد الإنسان على هذه الأرض». هذه العبارة، تحمل المعاني الواضحة حول ارتباط الإنسان بالأرض، بعيداً عن المفاهيم السياسية التي لها علاقة بمفهوم الدولة بالشكل المتعارف عليه حالياً، رغم أهميتها. هناك بعض الكتاب يعتقدون أن ارتباط الإنسان بالأرض لا يحتاج إلى نظريات ودروس سياسية، كما هو مطروح الآن، وإلا فإن دفاع الجندي الإماراتي الذي تم قبل وجود دولة الإمارات ككيان سياسي، لم يكن ليحدث لولا أنها فطرة تخلق في الإنسان السوي، بل إن هذا المنطلق يتقارب مع ما طرحه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في حديثه لمتدربي الخدمة الوطنية، وبالتالي فالمسألة تحتاج إلى إنسان طبيعي عفوي لا يحمل أي أفكار أو انتماءات غير أنها مرتبطة بجغرافية ينتمي إليها. وأنا ممن يعتقدون بهذه الحقيقة، لأني أظن أن تأثيرها أكبر من أي عنصر آخر، وهي غير مرتبطة بدين معين أو بشعب أو عرق خاص، مع عدم إنكارنا لتأثير البعد السياسي للاستشهاد في سبيل الوطن باعتباره إطاراً لهذه العاطفة الإنسانية النبيلة التي أعتقد أنها الأكثر قيمة، لأنها الغريزة التي جُبل عليها الإنسان، وتغذيها التربية الدينية والأخلاقية، ومن هذا المنطلق يأتي استبسال الإنسان الإماراتي في الدفاع عن بلاده وعن الإنسانية في أماكن مختلفة من العالم. يكفي الجندي أو الإنسان أن يؤمن بعدالة موقفه وقضيته كي تمثل له حافزاً ودافعاً عميقاً للموت من أجله، والدليل على هذا أن أول شهيد إماراتي مسجل، وهو سالم سهيل خميس، انطلق من مفهوم أن كرامته كإنسان لا تقبل أن يقوم محتل باغتصاب أرضه، فواجه القوات الإيرانية، رغم كثافتها، مع زملائه، رافضاً إنزال علم بلاده من على جزيرة طنب الكبرى التي كان يحرسها. وعلى مستوى العالم هناك أدلة سياسية وتاريخية كثيرة تؤكد فرضية أن الإنسان السليم لا يحتاج إلى برامج سياسية ليكون مواطناً صالحاً، فقط كل ما يحتاجه هو وجود قيادة سياسية ملهمة توضح له الأبعاد الأخلاقية والإنسانية، وهذا ما تفعله القيادة الإماراتية مع شعبها خاصة مع سقوط كل شهيد إماراتي، بل إن مشاركة القوات الإماراتية ضمن قوات التحالف العربي، وفي أفغانستان، أكدت ارتفاع قدر الحقيقة الإنسانية. ومن يدقق في حجم الاندفاع الذي يبديه ذوو الشهداء الإماراتيون في تقديم المزيد من أبنائهم، يشعر إلى أي مدى هو نابع من داخل الوجدان الإنساني لا أكثر، وليس كما هو متبع لدى مجتمعات أخرى تقدم المادة أو ما يعرف سياسياً بـ«المرتزقة»، حيث بدأت شركات خاصة تقوم بهذا الدور، أو ما تقوم به الجماعات الإرهابية حيث تقاس هذه الأمور بالأيديولوجيا الضيقة. وبالملاحظة، هناك قدر كبير من الربط للمشاريع السياسية الكبرى في دولة الإمارات بالبعد الإنساني، سواء أكانت تلك المشاريع داخل الدولة أم خارجها، وهو ما يمكن تسميتها بالفلسفة السياسية للقيادة السياسية في الدولة منذ نشأتها، وذلك من أجل الحفاظ على قوة الدفع بالوتيرة نفسها والدفع بها نحو المزيد مع مرور الوقت، وهو ما نشاهد من تصاعد الاهتمام بيوم الشهيد في دولة الإمارات الذي يصادف 30 نوفمبر من كل عام، إذ مع كل عام يأخذ الاحتفال به اهتماماً أكبر، والحال ينطبق على باقي المشروعات السياسية مثل اليوم الوطني للدولة ويوم العلم. وقد نجح كثيراً مؤسس دولة الإمارات المغفور له -بإذن الله- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في إرساء الكثير من المشروعات التنموية واستمراريتها، ومن ثم كان بقاء سيرته حاضرة لدى الناس بفضل هذه الفلسفة. لهذا يظل الشيخ زايد حاضراً بيننا رغم مرور نحو أربعة عشر عاماً على وفاته، وأكثر من أربعة عقود على تأسيس الدولة الاتحادية. بتتبع التجارب الحياتية لدولة الإمارات نجد أن لها تأثيرها في مسار تاريخه وأنها تترك مع كل تجربة بصمة من الصعب نسيانها، وهذا الأمر نابع من وجود فكر ورؤية تجعل من قيادتها تعيد صياغة بعض المفاهيم الضيقة، فكما أن للتجربة الاتحادية التي نحتفل بها خلال هذه الأيام مدلولها الخاص، فإنها تذكرنا بما قدمه شهداء الإمارات وبمعانيه الخاصة في هذا المجال، وهذا يجعلنا نقول إن ما تفعله دولة الإمارات إنما هو من باب إعادة الأشياء إلى الطبيعة الإنسانية الحقة التي عبثت بها الأيديولوجيات السياسية لتعيدها إلى أصلها ولتواكب الحياة الخالدة.