استشهد 305 مواطنين منهم 27 طفلاً وأصيب 129 آخرون في أكبر هجوم إرهابي شهده تاريخ مصر استهدف مسجد الروضة في بئر العبد بمدينة العريش بشمال سيناء بجمهورية مصر العربية، وذلك في تفجير وسط المصلين داخل المسجد أثناء صلاة الجمعة الماضي، فيما انتظرت عناصر مسلحة بـ(آر. بي. جي. والرشاشات الآلية) الناجين من الانفجار في عملية لا يتصورها الشيطان نفسه. فهذا الحادث الجبان تطور نوعي في عالم الإرهاب باستهدافه مسجداً وطائفة من المسلمين. وهو ما يطرح تساؤلات شتى حول استهداف التنظيمات الإرهابية لأول مرة وبهذه البشاعة المساجد في مصر، وكانت قد عكفت شراذمها على استهداف الكنائس والسياح وعناصر الجيش والشرطة في كمائنهم الجبانة. في الواقع هذه محاولة لاغتيال مصر الحديثة، وتجعلنا نتوقف كثيراً عندها، فهي العملية المسلحة رقم 1165 منذ ثورة 30 يونيو 2013، مما يدل على أن مصر القوية التي عادت إلى نفسها هي المستهدفة. وتقول مصادر الاستخبارات الغربية أن الأسلوب الوحشي الذي نفذ ينطبق على أساليب تنظيم «داعش» الإرهابي. فهل «داعش» تتعاطف مع الجماعة الإرهابية الأم أم العكس؟ أم تحاول قوى أجنبية ضرب الاستقرار والأمن والاقتصاد في مصر لكونها عليمة بأنه لو سقط النظام لسقطت المنطقة العربية برمتها؟ فمصر تقود حرباً بالوكالة عن العالم الإسلامي ضد الإرهاب وضد مخططات كبرى في المنطقة. وعودة إلى الحدث في نظرة تأمل، نجد أن المسجد المستهدف كان يرتاده المدنيون من أتباع المنهج الصوفي، لاسيما الطريقة «الجريرية»، بقرية الروضة، التي تبعد نحو 40 كيلو متراً غرب العريش. ولقد أقدمت هذه التنظيمات الإرهابية السنة الماضية على ذبح الشيخ الصوفي سليمان أبو حراز البالغ من العمر 98 عامًا، أكبر شيوخ قبيلة السواركة الأكثر عددًا في سيناء، والتي كانت ذكرى وفاته قبل يومين، حيث يستند التنظيم الإرهابي في أدبياته التكفيرية التي نشأ عليها على أن قتال العدو القريب أولى من ضرب العدو البعيد، بل يرى بعضهم أن الصوفية «مشركون ويجب قتالهم»، ويعتبر مساجدهم مساجد ضرار، وجب هدمها. ومن ثم جاء إعلان الحرب عليها. في بداية العام الحالي 2017، حينما وجه «أمير مركز الحِسبة» تهديداً شديد اللهجة إلى صوفيي سيناء بقوله: «اعلموا أنكم عندنا مشركون كفار، وأن دماءكم عندنا مهدرة، ونقول لكم إننا لن نسمح بوجود زوايا لكم في ولاية سيناء». لكن السؤال الذي يفرض نفسه ويستمد قوته من واقع مصابنا الأليم في هذه الفاجعة التي ضربت العالم الإسلامي كله، وجعلتنا كلنا اليوم مصريون: على أي مستندٍ شرعي تبرر هذه الجماعات وغيرها الجنوح إلى القتل والعنف، وبهذه الوحشة التي لانظير لها في البشر؟ لقد قرأنا في كتب التراث المعتمدة عند جمهور العلماء، فلم نجد ما يؤصل لثقافة الموت أو الخروج على ولاة الأمور. والقول بغير ذلك شاذ وعارض مثل الخوارج الذين طوعوا ظاهر النص خدمة لآرائهم السياسية. فقد ظهرت في القرن العشرين جماعات الإسلام السياسي، التي سلكت مسلك الخوارج في تعاملها مع واقع المسلمين انطلاقاً من تصورها لمفاهيم مستحدثة: الجاهلية، الحاكمية، الجماعة، العزلة. لقد وصف سيد قطب منظر جماعة «الإخوان» الإرهابية في كتابه: (معالم في الطريق) المُجتمعاتِ الإسلاميةِ بالجاهلية فكَفَّرَها ومعها أهلَ الأرضِ جميعاً، فقال: (يدخلُ في إطارِ المجتمعِ الجاهليِّ تلكَ المُجتمعاتُ التي تزعمُ لنفسِها أنها مسلمة، لا لأنها تعتقدُ بألوهيةِ أحدٍ غيرِ الله، ولا لأنها تُقدِّمُ الشعائرَ التَّعَبُّديةَ لغيرِ الله، ولكنَّها تدخلُ في هذا الإطار –يعني الإطارَ الجاهليِّ والرِدَّةَ عن دينِ اللهِ –جلَّ وعلا-، لأنها لا تَدينُ بالعبوديةِ للهِ وحدَهُ في نظامِ حياتِها. فهي وإنْ لم تعتقد بألوهيةِ أحدٍ إلا الله، تُعطي أخصَّ خصائصِ الألوهيةِ لغيرِ الله، فتدينُ بحاكميةِ غيرِ الله، فتتلقى مِن هذه الحاكميةِ نِظامَها، وشرائعَها وقيمَها، وموازينَها، وعاداتِها وتقاليدَها. ويتحدد موقفُ الإسلامِ من هذه المجتمعاتِ الجاهليةِ كلِّها في عبارةٍ واحدة: أنْ يَرفضَ الاعترافَ بإسلاميةِ هذه المجتمعات كلِّها). ليصل سيد قطب بفكرةُ (الحاكمية)، انطلاقاً من تأصيل أبي الأعلى المودودي لها في (المصلحات الأربعة) إلى تكفيرِ جميع المسلمين، ومن ثم إحلال دمهم، والعودة بنا إلى عصر كفار قريش حيث قال: (ارتدت البشريةُ إلى عبادةِ العباد، وإلى جَوْرِ الأديان، ونَكَصت عن لا إله إلا الله، وإنْ ظلَّ فريقٌ منها يُرَدِّدُ على المآذن: لا إله إلا الله). نعم فأنت عند - سيد قطب- لا تختلف عن عقيدة مشركي الجاهلية وان كنت تأتي بكل أركان الإسلام الخمسة ولا تقوم بمقتضيات الألوهية – على حسب مفهومه-: (إنما كان شِرْكُهم الحقيقيُّ يتمثلُ ابتداءَ في تَلَقِّي منهجِ حياتِهم وشرائعِهم مِنْ غيرِ الله –لا في عبادةِ الأصنام تقرُّبًا واستشفاعًا إلى الله مع تقديمِ النُّذورِ وذبحِ الذبائحِ والقرابين لها، مع تقديسِها وطلبِ منها ما لا يجوز طلبُهُ إلا مِن الله، كلُّ هذا لم يلتفت إليه-، يقول: الأمرُ الذي يشاركُهم فيه اليوم أقوامٌ يظنون أنهم مسلمون على دينِ مُحمد كما كان المشركون يظنون أنهم مهتدونَ على دينِ إبراهيم). لينتهي إلى الاستنتاج التالي: (والذين لا يُفردون اللهَ بالحاكميةِ في أيِّ زمانٍ وفي أيَّ مكانٍ، هم مُشركون، لا يُخرِجُهم مِن هذا الشِّرك، أن يكونَ اعتقادَهم أن: لا إله إلا الله مجرد اعتقاد، ولا أنْ يُقدموا الشعائرَ لله وحدَهُ). وبذلك على (الجماعة) أن تقوم مقام (المخلص) وإلا عليها (الإثم): (إنه لا نجاةَ للعُصبةِ المسلمةِ في كلِّ أرضٍ مِن أنْ يقعَ عليها العذاب، إلا بأنْ تنفصلَ عقيدياً وشعورياً ومنهجَ حياة عن أهلِ الجاهليةِ من قومِهم، حتى يأذنَ اللهُ لها بقيامِ دارِ إسلامٍ تعتصمُ بها، وإلا أنْ تشعرَ شعوراً كاملًا بأنها هي الأمةُ المسلمة، وأنَّ ما حولها ومَن حولها ممن لن يدخلوا فيما دخلت فيه، جاهلية وأهلُ جاهلية). إنها حقاً دعوة للقتل والتحريض عليه حتى تعم شريعة "الجماعة": (إنه ليس على وجهِ الأرضِ اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعاملِ فيه: هي شريعةُ الله والفقه الإسلامي). وترك تأويلها لكل مجتهد وهنا تكمن المصيبة. وتضلل بها قطاع كبير من الشعوب الإسلامية عندما ترفع هذه الجماعات ثنائيات مثل (الفكر والديموقراطية) أو (المشاركة السياسية ونصرة العصبة الناجية)؟ وإن البشرية قد(عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله، فأعطت لهؤلاءِ العباد الذين شرعوا التقاليدَ والعاداتِ والأعيادَ والأزياء خصائص الألوهية، ولم تَعُد تَوَحِّدُ اللهَ وتُخلصُ له الولاء). (البشريةُ بجُملتِها بما فيها أولئك الذين يُرددون على المآذنِ في مشارقِ الأرض ومغاربها كلمات (لا إله إلا الله) بلا مدلولٍ ولا واقع، وهؤلاء أثقلُ إثمًا، وأشدُّ عذابًا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادةِ العباد بعدما تبينَ لهم الهُدى، ومن بعدِ أنْ كانوا في دين الله). وهذا ما يبرر لهم قتل علماء الدين الأفاضل ومنهم من هدموا عليه مسجده بمن فيه مثل العالم السوري الجليل محمد سعيد رمضان البوطي، وأحد المرجعيات الدينية المهمة على مستوى العالم الإسلامي. صحيح أن هناك عناوين متكررة رسمياً وشعبياً بضرورة تجديد الخطاب الديني، لكن هل تم إعدام الكتب التي فيها تحريضات على القتل والاستشهاد والجهاد لأناس من الزمن السحيق يتحدثون عن مستلزمات عصرهم تحت الاحتلال وفي حروب دينية وطائفية. أما فيما يخص مجانين عصرنا نتساءل..كيف يروج لأصحاب الأفكار الهدامة؟ وكيف تسمح مؤسساتنا الرسمية والشعبية لدور النشر بإعادة طباعة وتوزيع مثل هذه الأفكار الظلامية، التي اخترقت مناهجنا التعليمية ومحتويات برامجنا الإعلامية بل ومنابرنا الدينية والثقافية والفنية؟ فلم تعد تكفي إصدارات الفتاوى بتكفير خوارج العصر لردع إقدام المضللين على إجرامهم والزج بخيرة أبنائنا إلى خنادق الفناء. المطلوب فكر سليم لإنقاذ عقول شبابنا وشباب الغرب من فكرهم الشيطاني، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَ?ئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.