قُدر لهذه المدينة الصغيرة الآمنة التي تقع في سيناء المصرية التي شهدت حلقات فارقة من تاريخ مصر والعرب أن تكون شاهداً جديداً صارخاً على درجة الانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه جماعات الإرهاب ليس في مصر وحدها ولكن في كل مكان آخر شهد آثام هذه الجماعات. ولم تتعود مصر، وإن تعرضت لعقود طويلة من الإرهاب، على هذه النوعية من العمليات التي يسقط فيها الشهداء بالمئات في عملية أشبه بالإبادة الجماعية لأناس كل جريرتهم أنهم يؤدون فروض دينهم في بيت آمن من بيوت الله. وضع المجرمون خطة الإبادة وكأنهم في سبيل الدخول في معركة حربية، فهذه مجموعة مكلفة بإحداث تفجير ما داخل المسجد، وتلك تترصد المصلين الأبرياء بالرشاشات من نوافذه، وثالثة تترصد خارج المسجد من يحاول النجاة كي تجهز عليه، ورابعة تهاجم سيارات الإسعاف التي هُرعت للإنقاذ، فأي سقوط أخلاقي وصل إليه الإرهاب والإرهابيون؟ في البدء كانوا يستهدفون أفراد القوات المسلحة والشرطة باعتبارهم الذراع العسكرية لنظام حكموا عليه كذباً وبهتاناً بـ«الكفر»، ثم طالت شرورهم أتباع الديانة المسيحية باعتبارهم «كفاراً»، ثم جاء الدور على الشيعة، ووصلنا أخيراً إلى أتباع الطرق الصوفية، فمن يبقى من البشر آمناً من شرور الإرهاب والإرهابيين؟ يلفت في هذه الجريمة الإرهابية الأخيرة أنها تزامنت مع تطورين مهمين في المعركة ضد الإرهاب، أولهما أن عملية مواجهة الإرهاب في مصر قد حققت نجاحات لافتة ترتب عليها انخفاض ملحوظ في وتيرة العمليات الإرهابية، ولهذا فإن عملية «بئر العبد» رغم فداحتها تشير إلى أن جماعات الإرهاب باتت تتخيّر العمليات السهلة التي تستهدف المدنيين العزل، ولذلك فعلى رغم تحفظي على العبارة التي تتردد كثيراً في هذا السياق، وهي أن «الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة» فما زال الكثير من الشرور في جعبته، إلا أنه من المؤكد أن جماعات الإرهاب تجد نفسها في مأزق حقيقي، فهي وإن نجحت في تنفيذ جريمة هنا أو هناك تتلقى عقابها على الفور، كما أن العديد من مخططاتها يتم إحباطه قبل أن يُنفذ بضربات استباقية دقيقة وناجحة. ولذلك فإن جماعات الإرهاب تتصور أنها بهذه العمليات الجبانة تستطيع أن تثبت أنها ما زالت موجودة ومؤثرة وقادرة على الإيذاء، متخيلة أنها ستبث الرعب في قلوب الناس على هذا النحو فيبتعدون عن أي تعاون مع السلطات التي تكافح الإرهاب، وتزيد الثقة لدى أنصارها المحتملين من ذوي الغفلة أو الأفكار المنحرفة. وعلى العكس تماماً أثبتت عملية «بئر العبد» الخطأ الفادح لحسابات الإرهاب فلم تشهد مصر إجماعاً على إدانته وكراهيته وضرورة قطع دابره كما حدث بعد هذه العملية الفاجرة. أما التطور المهم الثاني الذي سبق عملية «بئر العبد» فهو الهزائم التي تلقتها الجماعات الإرهابية في كل من العراق وسوريا، والحقائق التي تكشفت بخصوص صفقات فرار الإرهابيين انطلاقاً من نظرة جزئية يحاول بعض الأطراف بموجبها أن ينظف أرضه من الإرهاب بإزاحته إلى مواقع أخرى. وفي ظل استحالة الرقابة الكاملة المطلقة على الحدود كان هناك تحسبٌ لاحتمال انتقال الإرهابيين المهزومين من مكان إلى آخر، وقد يكون هذا الاحتمال مسؤولاً ولو جزئياً عن الجريمة الأخيرة كما ثبت من بعض الجرائم الإرهابية التي انطلقت إلى مصر من حدودها الغربية، وهو الأمر الذي يتطلب منتهى اليقظة ومراجعة خطط التصدي للإرهاب، وهو ما يحدث أساساً على الصعيد الأمني/ العسكري دون أن يوجد في المقابل تقدم مماثل على الصعيد الفكري. فما زالت دعوات تجديد الخطاب الديني ومحاولاته تواجه بفكر غير مستنير، وما زال بعض أبواق الفكر التي تشكل رافداً مهماً من روافد الفكر الإرهابي يجد الفرصة كي ينفث سمومه التي تطول صحيح الدين وجوهره وتماسك المجتمع وقوته، وذلك بتقديم فهم مغلوط لأحكام الدين، وملاحقة كل مجتهد في مجال تجديد الخطاب الديني، وبث الدعاوى المغلوطة عن تعامل الإسلام مع أتباع الديانات السماوية الأخرى والموقف من «الآخر» المختلف في المذهب داخل الدين الواحد، وكلها أفكار تشارك في صناعة الإرهابيين بغسيل عقولهم على النحو الذي يجعلهم على هذا القدر من الفهم الخاطئ للدين والسقوط الأخلاقي وانعدام الإنسانية، ولذلك كله فإن المواجهة الفكرية للإرهاب باتت في أمسِّ الحاجة لدفعة قوية تتضافر فيها كل القوى المخلصة في الحرب عليه.