لم يتوقف الحديث في زيمبابو منذ أعوام حول مآل وكيفية انتقال السلطة مستقبلاً في هاراريه، خاصة مع تقدم موغابي في العمر كثيراً وظهور علامات الشيخوخة والمرض عليه، لكن الطريقة السريعة التي حدث بها هذا الانتقال، الأسبوع الماضي، لم يتوقعها أحد من قبل. فقد أعفى موغابي نائبه القوي «إيميرسون منانغاغوا» من جميع مناصبه، متهماً إياه بـ«الخيانة وعدم الولاء»، ففر نائب الرئيس المقال إلى خارج البلاد. لكن بعد 16 يوماً فقط كانت هاراريه تستقبله عن بكرة أبيها، ويتم تنصيبه رئيساً جديداً لزيمبابوي، بعد قيام الجيش والحزب بإجبار موغابي على الاستقالة. وفي خطاب التنصيب قال منانغاغوا: «اسمحوا لي بداية، أن أتوجه بتحية إجلال وإكبار للأب المؤسس لأمتنا، قائد مسيرة زيمبابوي التحررية نحو السيادة والاستقلال، الرفيق روبرت موغابي الذي أجد من واجبنا جميعاً تقديم خالص الشكر وعظيم الامتنان له على كل التضحيات التي بذلها في سبيل بناء ونهضة زيمبابوي، وعلى تحمله مسؤولية قيادة هذه الأمة في أحلك الظروف وأكثرها تعقيداً.. حتى وإن اعترفنا بأنه ارتكب أخطاء خلال فترة توليه زمام قيادة المسيرة، وهي أخطاء يستحيل أن تنسينا ما قدمه من تضحيات وخدمات جليلة لزيمبابوي». ويصدر هذا الإطراء الممزوج بالنقد حيال موغابي ممن ظل يَعدُّه كثيرون رجُلَه ومهندس أعنف حملاته ضد المعارضة الزيمبابوية، ومدير مخابراته لأعوام عدة.. مما يثير تساؤلات حول مدى التجديد المتوقع لزيمبابوي من وراء خلافة منانغاغو لزعيمه السابق في الحكم! وأياً يكن الأمر، فإن الطريقة التي تمت بها إزاحة موغابي وتنصيب نائبه السابق رئيساً، تمثل أسلوباً جديداً للتناوب على الحكم لم تعرفه البلدان الأفريقية من قبل؛ فلا هو بالانقلاب العسكري المحض، ولا هو بالانتقال المدني السلمي الديمقراطي للسلطة. إنه مزيج آخر، وربما يرتبط إعلامياً باسم منانغاغوا الذي يعرف الزيمبابويون جيداً كيف ينطقونه، فيما يحتاج غيرهم إلى بعض الوقت للتعود عليه في نشرات الأخبار! وإيميرسون منانغاغوا سياسي زيمبابوي ورجل دولة، وقيادي في حزب «زانو» الحاكم، سبق أن شغل العديد من المناصب التنفيذية والتشريعية، وقد تم تنصيبه يوم الجمعة الماضي رئيساً لبلاده. ولد إيميرسون منانغاغوا عام 1942 بمنطقة «زفيشافان» في وسط «ردويسيا الجنوبية» (زيمبابوي الحالية)، والتي كانت مستعمرة بريطانية في حينه، حيث أَجبرَ القمعُ السياسيُّ عائلتَه في عام 1955 على الانتقال إلى روديسيا الشمالية (زامبيا حالياً). وهناك واصل دراسته لينضم إلى جامعة زامبيا، لكنه طرد منها عام 1960 بسبب نشاطه الطلابي. أما حياته السياسية، فكانت بدايتها في عام 1962 حين انضم إلى حركة «الاتحاد الشعبي الأفريقي لزيمبابوي» (زابو)، خلال الكفاح الوطني ضد الحكم البريطاني، ثم ضد نظام الأقلية البيضاء الذي أعلنه «إيان سميث» في روديسيا الجنوبية عام 1965. فقد نقلته إلى تنزانيا في عام 1963 حركة «زابو»، حيث تلقى تدريباً في أحد معسكراتها هناك، قبل إرساله في العام التالي إلى الأكاديمية العسكرية المصرية في القاهرة. وهناك قرر مع رفاقه الانضمام إلى «الاتحاد الوطني الأفريقي الجديد لزيمبابوي» (زانو) بزعامة روبرت موغابي، فاعتقلتهم السلطات المصرية التي تعترف بـ«زابو» وليس بـ«زانو» المولودة حديثاً. ومن مصر، تم إرسال منانغاغوا ورفاقه ليتلقوا تدريباً عسكرياً وعقدياً لأشهر عدة في المدرسة الماركسية بجامعة بكين. ثم عادوا إلى تنجانيقا بتانزانيا ليشكلوا «مجموعة التمساح»، والتي أخذ منها منانغاغوا لقبه الحالي، «الرجل التمساح»، فقاموا في عام 1965 بتنفيذ عملية عسكرية قُتل خلالها شخصان في مدينة «شيمانيماني» بجنوب البلاد. وتحت التعذيب، اعترف منانغاغوا بمسؤوليته عن العملية، فحكم عليه بالسجن عشر سنوات. وفي السجن التقى قادة حركته المعتقلين بمن فيهم موغابي. وبعد قضائه سبع سنوات من محكوميته، أُفرج عن منانغاغوا، وتم ترحيله إلى زامبيا ليستأنف دراسته في مجال القانون، ثم يعود ويمارس نشاطه كمحامٍ في دومبوتشينا خلال السبعينيات، حيث ظل يترقى في سُلم الرتب والمناصب داخل «زانو». وبعد نيل «روديسيا الجنوبية» استقلالها تحت اسم زيمبابوي، أصبح منانغاغوا وزير الداخلية والأمن في أول حكومة للأغلبية الأفريقية برئاسة موغابي عام 1980، ثم وزيراً للعدل في عام 1988، قبل أن يصبح وزيراً للمالية في عام 1995، ومن بعد ذلك ترأس مجلس النواب في عام 2000، ليعود إلى الحكومة مجدداً كوزير للإسكان الريفي عام 2005، ثم وزيراً للدفاع عام 2009، فنائباً لرئيس الجمهورية في عام 2014 حتى إقالته يوم السادس من نوفمبر الجاري. وخلال مسيرته السياسية والتنفيذية الطويلة، يعتبر كثيرون أن منانغاغوا لعب دوره الأكثر تأثيراً حين كان وزيراً للداخلية والأمن في الثمانينيات، إذ يتهمه خصومه بالمشاركة في عمليات التطهير الدموي ضد معارضي موغابي، حيث تمت تصفية نحو 20 ألف شخص من حركة «زابو» السابقة، ينتمون كلهم إلى أقلية «إنديبيلي» الإثنية في غرب وجنوب غرب البلاد. كما يتحدث خصومه عن دور له في العنف الدموي خلال وبعد الانتخابات الرئاسية لعام 2008، وعن تنسيقه حملة «تخويف» ضد المعارضة أودت بحياة 200 شخص، بينهم المنافس الرئيسي لموغابي. لكن العلاقة بين منانغاغوا وموغابي تغيرت منذ الصيف الماضي، حيث بدأت زوجة الرئيس «غريس موغابي» توغر صدر الزعيم العجوز ضد رفيقه وتلميذه السابق، كما أوجدت مناهضين له داخل الحزب، وقيل إنه نجا من محاولةٍ لتصفيته جسدياً في أغسطس الماضي.. وذلك بغرض إبعاده من الحزب والحكومة ولحرمانه من إمكانية خلافة موغابي في السلطة، أو كما قالت «غريس»، بغية «قطع رأس الأفعى». وإثر الإعلان عن إقالته من منصبه كنائب للرئيس، وإقصائه نهائياً من حزب «زانو»، بتهمة «الخيانة وعدم الولاء»، كما جاء في قرار موغابي، اضطر منانغاغوا للهرب من بلاده إلى جمهورية جنوب أفريقيا المجاورة. ويبدو أنه احتاط لهذه اللحظة منذ أشهر عدة، وهو يخوض مواجهة صامتة مع «غريس» الساعية لخلافة زوجها في الحكم، خاصة بعد أن حذّره حليفه، قائد الجيش الجنرال «كوستانتينيو تشيوينغ» من تصفيات بحق أعضاء «زانو» التاريخيين، فعلم أنها إشارة إلى إقالته. وبعد فراره من البلاد خوفاً على حياته، سارع منانغاغوا، وقد ظل لسنوات طويلة حلقة الوصل بين الجيش والمخابرات و«زانو»، إلى إجراء اتصالات سرية بأنصاره وتحريكهم داخل الحزب والجيش، وهو ما أثمر سريعاً، إذ تحركت الدبابات من خارج العاصمة هاراريه باتجاه القصر الرئاسي لموغابي مساء الرابع عشر من الشهر الجاري، لتضع بصمتها على الوضع السياسي في زيمبابوي لأول مرة. لكنّ أحداً لم يشأ لخلع موغابي من الحكم على أيدي الجيش أن يكون انقلاباً عسكرياً، فتم استدعاء منانغاغوا كرئيس مدني بديل عن رفيقه السابق وابن أثنيته («شونا»)، بينما حافظ الجيش على بقائه خلف ستارة المشهد. أما زيمبابوي المحتفلة برحيل المؤسس العجوز، ففي احتفاليتها كثير من عناصر الترقب والتشكك حيال السجل الماضي لمنانغاغوا، أو «التمساح» الذي عادة ما «ينتظر داخل النهر بصبر وتأني، حيث تأتي فريسته ليهجم عليها في الوقت المناسب». محمد ولد المنى