من الممكن اعتبار يوم 17 نوفمبر 2017، علامة فارقة على طريق الجهود العالمية لمكافحة مرض السل، وربما حتى القضاء عليه. ففي هذا اليوم، في العاصمة الروسية، وبحضور ممثلين عن 114 دولة، منهم 75 وزير صحة، تم الاتفاق على «إعلان موسكو» ضمن مؤتمر منظمة الصحة العالمية الأول لوزراء الصحة للقضاء على مرض السل (WHO Ministerial Conference on Ending Tuberculosis). وكبيان لمدى أهمية هذا المؤتمر العالمي، وخطورة القضية التي يتناولها، ترأس الجلسة الافتتاحية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبحضور النيجيرية أمينة محمد نائب السكرتير العام للأمم المتحدة، والدكتور «تيدروس غيبريسوس» المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، إضافة إلى العشرات من وزراء الصحة، والمئات من المهتمين والخبراء. ويأتي هذا المؤتمر على خلفية الإحصائيات والتقديرات التي تشير إلى وقوع 10.5 مليون إصابة جديدة بميكروب السل عام 2015 وحده، و60 في المئة من هذا العدد كانت في ست دول فقط، على رأسها الهند بأعلى معدل للإصابات الجديدة، تليها إندونيسيا، والصين، ونيجيريا، وباكستان، ثم جنوب أفريقيا. وبوجه عام يقع 60 في المئة من مجمل حالات السل في القارة الآسيوية، بينما تتحمل دول القارة الأفريقية 25 في المئة من تلك الحالات. وفي عام 2015 -كباقي الأعوام تقريباً- لقي 1.8 مليون شخص حتفهم بسبب مرض السل، منهم 0.4 مليون كانوا مرضى بفيروس الإيدز، مما يضع السل ضمن قائمة الأمراض العشرة الأكثر فتكاً حالياً بأفراد الجنس البشري، وفي مرتبة متقدمة على الملاريا والإيدز. وللأسف، فالعشرة ملايين أو أكثر الذين يصابون بالسل كل عام، من بينهم مليون طفل على الأقل، ومن بين الـ1.8 الذين يلقون حتفهم كل عام بسبب هذا المرض هناك أكثر من 200 ألف طفل. ويُرد السبب في هذه النسبة الكبيرة من الوفيات بين الأطفال المصابين بمرض السل إلى صعوبة تشخيص المرض، وصعوبة علاجه في مرحلة الطفولة. والسل مرض مُعدٍ، وقاتل في كثير من الأحوال، يتسبب فيه نوع خاص من البكتيريا يصيب غالباً الرئتين، وإن كان يمكنه كذلك إصابة أجزاء أخرى من الجسم. وتقع العدوى من خلال الرذاذ الناتج عن سعال، أو عطس، أو بصق الشخص المصاب بالحالة النشطة من المرض، حيث يتسبب المريض الواحد في انتقال الميكروب إلى ما بين 10 إلى 15 شخصاً آخر سنوياً. ويعتبر السل واحداً من أخطر ثلاثة أمراض معدية، حيث يتمكن ميكروب السل بمرور كل ثانية من غزو جسد شخص ما. كما يعتبر ميكروب السل أيضاً من الميكروبات التي لازمت الجنس البشري منذ فجر التاريخ، حيث وجدت آثار المرض في بقايا عظام إنسان الكهف، وفي العمود الفقري لمومياوات الفراعنة، وظل هذا المرض يحصد أرواحاً بشرية بالملايين خلال العقود والقرون على امتداد آلاف السنين، وقد بلغ ذروته خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، حينما كان السل الذي عرف بـ«الطاعون الأبيض» مسؤولاً عن 25 في المئة من جميع الوفيات بين سكان القارة الأوروبية. ومما لا شك فيه أن الطب الحديث قد حقق انتصارات واختراقات واضحة ضد هذا الميكروب اللعين، وخصوصاً في العقود الأخيرة، حيث تظهر الإحصائيات أن عدد حالات الإصابات الجديدة والوفيات الناتجة عن مرض السل، قد انخفضت بنسبة 22 في المئة ما بين عامي 2000 و2015، ووقع معظم هذا الانخفاض في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط -التي تكون الدول العربية والإسلامية معظم دولها- وفي المنطقة الأوروبية أيضاً، بينما ظلت المنطقة الأفريقية تعاني من أقل نسبة انخفاض على صعيد عدد الحالات الجديدة والوفيات. وإن كان هذا النجاح الحديث، أصبح يهدده مؤخراً تفاقم ظاهرة قدرة ميكروب السل على مقاومة الأدوية والعقاقير المستخدمة في العلاج. ففي عام 2015 وحده، قُدر أن 480 ألف شخص وقعوا ضحية للعدوى بأصناف من الميكروب، قادرة على مقاومة عدد كبير من الأدوية والعقاقير المستخدمة للعلاج (MDR-TB)، بل إن أصنافاً من الميكروب أصبحت حالياً قادرة على مقاومة الغالبية العظمى من الأدوية والعقاقير الطبية (XDR-TB)، وهي الأنواع التي تعرف بـ«فائقة المقاومة»، مما يجعل الأطباء عاجزين عن علاجها. ولذا يعتري القلق حالياً العاملين في مجال مكافحة ميكروب السل والقضاء عليه من أن انتشار مثل هذه الأصناف من الميكروب، وخصوصاً فائقة المقاومة، قد يعود بعجلة التاريخ للوراء، ليشهد الجنس البشري مرة أخرى أوبئة متكررة من «الطاعون الأبيض»، لا تبقي ولا تذر.