تخيل أنك ضحية لجريمة عنف أو سرقة، ولكنك ممنوع من الإبلاغ عنها لأن الكونجرس مرّر قانوناً لا يحظر عليك الإبلاغ عن الجريمة فحسب، وإنما يهدد أيضاً بمعاقبتك إذا تجرأت على فعل ذلك. لعلّ هذا تحديداً هو الموقف الذي يجد فيه الفلسطينيون أنفسهم في الوقت الراهن. وقد أُخبر الفلسطينيون بأن الحكومة الأميركية توشك على سحب حقهم في الاحتفاظ بمكتب تمثيل في واشنطن، لأنهم تجرؤوا على تقديم شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد النشاط الاستيطاني وسرقة الأراضي التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة. وقد بدأت القصة الكامنة وراء ذلك الوضع الكابوسي في عام 1987، عندما مرر الكونجرس قانوناً يحظر على منظمة التحرير الفلسطينية إدارة مكتب في الولايات المتحدة. وقد دفع اللوبي الصهيوني المعروف ب«لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية» المعروف اختصاراً بـ«آيباك» بذلك القانون. وكان الهدف منه ضمان ألا يصبح للفلسطينيين تواجد أو صوت سواء في واشنطن أو الأمم المتحدة. وقد كانت تلك محاولة لتقنين التزام سرّي من قبل وزير الخارجية الأميركية الأسبق «هنري كسينجر» تجاه الإسرائيليين بأن الولايات المتحدة لن تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية أو تحاورها. وأصرّ الإسرائيليون على سياسة «عدم إجراء محادثات» لسبب بسيط عبر عنه رئيس حزب «العمل» الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين بأن: «أي شخص يوافق على إجراء محادثات مع منظمة التحرير الفلسطينية، فهو يقبل من حيث المبدأ إنشاء دولة فلسطينية بين إسرائيل والأردن، وهو أمر لا يمكن أن نقبله أبداً». وفي عام 1993، بعد توقيع إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية «اتفاقات أوسلو»، التي أقرّ فيها كل من الطرفين بالحقوق القومية للطرف الآخر، اجتمع الكونجرس لإعادة تقييم «تشريع 1987». وبدلاً من فعل الصواب وإلغائه ببساطة، اختار الكونجرس الاحتفاظ بالقانون، بفعل ضغوط من «آيباك». غير أن التعديل الوحيد الذي أدخلوه على القانون هو منح الرئيس الأميركي الحق في إسقاط البند المعادي للفلسطينيين كل ستة أشهر شريطة أن تشهد وزارة الخارجية الأميركية أمام الكونجرس بأن الفلسطينيين يلتزمون بأحكام «اتفاقات أوسلو». وفرض ذلك التشريع، الذي أطلق عليه اسم «قانون تسهيل السلام في الشرق الأوسط»، سلسلة من المتطلبات على الفلسطينيين. وكان من بينها: رفض المقاطعة العربية، وإبطال ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم فتح مكاتب في القدس، وإنهاء الإرهاب، وعدم اتخاذ أية خطوات لتغيير وضع القدس أو الضفة الغربية أو غزة، انتظاراً لنتيجة المفاوضات مع الإسرائيليين. ولأن الكونجرس اختار فقط فرض تلك الشروط على المساعدات الأميركية للفلسطينيين وحقهم في تشغيل مكتب مساعدات لهم في الولايات المتحدة، بينما لم يضع أية شروط على التزام الإسرائيليين بـ«اتفاقات أوسلو»، فقد كان واضحاً منذ بداية ما يسمى بـ«عملية أوسلو»، أن الولايات المتحدة لم يكن بوسعها لعب دور «الوسيط النزيه» في جهود البحث عن السلام. وكل ستة أشهر، كان اللوبي الإسرائيلي يثير مسألة الالتزام الفلسطيني، ويقدم مستندات مزعومة بشأن إخلالات فلسطينية مكذوبة، ومن ثم يحتج عندما تشهد وزارة الخارجية لصالح التزام الفلسطينيين. وفي هذه الأثناء، واصلت إسرائيل، التي تعمل في ظل حصانة كاملة، توسيع مستوطناتها اليهودية والطرق والبنية التحتية في الضفة الغربية، فيما تطلق عليه مصطلح «القدس الكبرى»، وهي ترسخ بذلك «لحقائق جديدة على الأرض»، وتفرض ظروفاً قاسية أخرى على حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وتنتهك مراراً وتكراراً التزاماتها في ظل «اتفاقات أوسلو»، وما لحقها من اتفاقات لاحقة في القاهرة وباريس. وفي حين لجأت إسرائيل إلى الكونجرس الأميركي لكي تشتكي بشأن مزاعم عدم الالتزام الفلسطيني، لم يكن من الممكن للفلسطينيين القيام بذلك. وقد كان ملاذهم الوحيد هو تقديم شكواهم إلى الأمم المتحدة، حيث تستخدم الولايات المتحدة، في نهاية المطاف، حق النقض «الفيتو» على كافة القرارات المهمة ضد إسرائيل. ومع مرور عقدين من الزمن، تم تعديل بنود قانون «تسهيل السلام في الشرق الأوسط» لتشمل تعليق المساعدات الأميركية للفلسطينيين وسحب حقهم في العمل داخل الولايات المتحدة إذا انضموا إلى أية وكالة دولية بصفتهم «دولة عضواً»، أو إذا حصلوا على اعتراف كدولة عضو بشكل كامل في الأمم المتحدة، ومؤخراً، أيضاً إذا رفعوا أية قضية ضد الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولكن نظراً لأنهم تجرؤوا على ذلك التحدي القانوني غير العنيف ضد الانتهاك الإسرائيلي للقوانين فقد تسبب ذلك في أزمة راهنة قد تسفر عن إغلاق المكتب الفلسطيني في واشنطن، وتجعل عمله غير قانوني في الولايات المتحدة. وتقول وزارة الخارجية والكونجرس إنهما يطبقان القانون، ولكن القانون المقصود جائر ويعاقب الضحية، بينما يسمح للجاني بالاستمرار في جرائمه. ولابد طبعاً من تغيير ذلك القانون، بيد أنه نظراً لأن الكونجرس لن يتصرف بأسلوب متوازن، فإن على الفلسطينيين الإسراع بكل طاقتهم لتقديم شكواهم إلى المحكمة الجنائية الدولية.