بعد انتهاء الحرب الباردة تفتّت الاتحاد السوفييتي، وخرجت منه خمس عشرة دولة جديدة. وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين، ووافق الألمان الشرقيون على أن يصبحوا مواطنين في ألمانيا الغربية. وكذلك تفتت الاتحاد اليوغسلافي، وخرجت منه سبع دول جديدة. وباستثناء التجربة التشيكوسلوفاكية، فإن حدود الدول التي خرجت من تحت رماد الاتحادين السوفييتي واليوغسلافي رسمت بالخلاف أو بالدم. وباستثناء التجربة الألمانية، فإن قبول المواطنة في دولة أخرى فرض بقوة الغلبة والأمر الواقع. وتحاول أوروبا اليوم تجاوز هذا الواقع لإقامة أمة واحدة من أمم متعددة. غير أن هذه المحاولة تواجَه بردود فعل سلبية. وقد نجح التمرد الأول في بريطانيا، التي صوتت بأغلبية مع الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. غير أن بريطانيا هي ذاتها جزء من المملكة المتحدة التي تضم معها أيضاً سكوتلندا وإيرلندا الشمالية. وكادت سكوتلندا تحقق الانفصال لو لم يرفع الاتحاد الأوروبي العصا في وجهها محذراً من أن عضوية الاتحاد لن تكون مفتوحة أمامها.. وكذلك غامرت كاتالونيا بمحاولة الانفصال عن إسبانيا، ولكن بعض قادة الحركة الانفصالية، بمن فيهم رئيس الحكومة المحلية، وجدوا أنفسهم في مقاعد المحكمة وليس في مقاعد الاتحاد، وعوملوا كمتهمين في بروكسل وليس كشركاء. لقد أثبت الاتحاد الأوروبي أنه ليس فقط قوة توحيدية لمجموعة الدول الأوروبية، ولكنه أيضاً قوة رادعة للطموحات الوطنية التي تدفع بالعديد من الدول الأعضاء نحو التشرذم والتفتت، وقد أعلنت هذه الطموحات عن ذاتها في إيطاليا «لومباردي وفينتو»، وفي فرنسا «كورسيكا»، وفي إسبانيا «الباسك وكاتالونيا». ولذلك، يبقى الاتحاد هو صمام الأمان للمحافظة على الوحدة الوطنية في الدول الأعضاء، بالترغيب أحياناً وبالترهيب أحياناً أخرى. وعلى رغم ارتفاع موجة الشعبوية في عدد من الدول الأوروبية، فإن هذه المواجهة تصطدم بجدار المبادئ التي يقوم عليها الاتحاد الأوروبي، مما يحملها على التقهقر إلى الوراء. صحيح أن بعض شعاراتها يتجاوز الجدار، كما حدث في ألمانيا وقبلها في فرنسا وهولندا، إلا أن هذه التجاوزات سرعان ما تتبخر، ولا يبقى منها سوى أصدائها السلبية، التي يمتصها الاتحاد. وهذا الدور المهم بنوعيه الترغيبي والترهيبي غائب تماماً عن جامعة الدول العربية، التي عجزت حتى عن تحقيق الحد الأدنى من الطموحات العربية في إقامة السوق العربية المشتركة. فهي لا تملك الأداة الترغيبية لإقناع إقليم كردستان مثلاً بعدم الانفصال عن العراق. ولم تملك الأداة الترهيبية لمنع انفصال جنوب السودان عن شماله. وفي الوقت الذي ترتفع فيه نداءات التحذير من مشروع إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على قاعدة التعدد الديني والمذهبي والعنصري انطلاقاً من المآسي التي عصفت بالعراق وسوريا وليبيا، تبرز الحاجة إلى قوة معنوية رادعة، تعطل عملية تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ في العالم العربي، وتحفظ على الأقل الأمر الواقع الذي صنعه الدبلوماسيان الإنجليزي والفرنسي سايكس وبيكو في العقد الثاني من القرن الماضي. ومن طبيعة كل مجتمع متعدد حاجته إلى جامع مشترك. وبانعدام هذا الجامع المشترك، أو بإسقاطه، يتحول التعدد إلى تشرذم والتوافق إلى صراع. وما جرى ويجري في كردستان العراق دليل على ذلك.. ويُخشى أن يكون أول «الغيث»!