يبدو أن حالة من فراغ السلطة قد بدأت في قلب أوروبا. يحدث هذا في الوقت الذي بدا فيه أن الغرب المضطرب ومعه معظم دول العالم أصبح ينظر إلى ألمانيا بكل ما عُرف عنها من قدرات سياسية وقيادية، وهي تفشل في تشكيل حكومتها. وهذه هي المرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي تفشل فيها ألمانيا بتشكيل ائتلاف حزبي راغب في تأليف حكومة أغلبية. ونتيجة لذلك، أصبحت ألمانيا تواجه خطر حدوث حالة طويلة الأمد من عدم الاستقرار. ويوم الاثنين الماضي، أعادت المستشارة أنجيلا ميركل تأكيد زعامتها للحزب «الديمقراطي المسيحي» الذي ينتمي لجناح وسط اليمين. وتبعاً لذلك أصبحت هي التي تحدد ما إذا كانت ألمانيا قد دخلت بالفعل في أزمة دستورية مكتملة الأركان أم أنها تجتاز مرحلة عادية للتجديد السياسي. وهل هي جزء من المشكلة، وهل في وسعها أن تستحضر الحل؟ لا شك في أن هناك مبررات للشعور بالقلق من وقوع أزمة دستورية في ألمانيا. ومن أجل تداركها، لابد لقادة «حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي» الذي تقوده ميركل و«حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي» البافاري و«حزب الخضر»، أن يعودوا جميعاً إلى طاولة التفاوض من أجل إنهاء الأزمة. وتكمن المشكلة في «الليبراليين الديمقراطيين الأحرار» بقيادة كريستيان ليندنير، وهو الذي أحبط المفاوضات خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي. وسوف يفقد مصداقيته كلها (وربما منصبه أيضاً) لو تخلى عن مواقفه السابقة. ورفض الشريك الأسبق في الائتلاف الذي شكلته ميركل، وهو حزب وسط اليسار «الديمقراطي الاجتماعي» العمل مع حزبها مرة أخرى. وأصبح تأليف حكومة أقلية مقبولة يتطلب معايير غير اعتيادية من الثقة والقوة والشعور بأهمية تحقيق المصلحة المشتركة من كل الأطراف التي تمثل المشهد السياسي في ألمانيا. وأصبحت الانتخابات الجديدة تمثل الخيار الوحيد المتبقي، إلا أن الدستور الألماني الذي يعود لعام 1949، والذي صمم بحيث يمنع إجراء استطلاعات رأي أو انتخابات مفاجئة، يجعل من هذا الحل صعب التحقيق. وهذا يعني أن الانتخابات الجديدة لا يمكن أن تنظم قبل حلول فصل الربيع المقبل. لكن حلفاء وخصوم ميركل ذاتها لا يمكنهم الانتظار كل هذه الفترة في ظل حالة الضعف الراهنة التي تعتري النظام السياسي في ألمانيا. كما أن الهالة السياسية التي تكلل رأس المستشارة ميركل فضلاً عن مهارتها الفائقة في التفاوض تراجعت بسبب الحملات السياسية الباهتة التي أطلقتها مؤخراً. ويبدو من المستحيل أن تعيد هذه الأزمة الأمور إلى بداياتها الأولى. ولقد عرف عن ميركل قدرتها الخارقة على حشد كل الإمكانيات المتوفرة لديها في أوقات الأزمات. ولا يزال «الخضر» مهتمين بعقد تحالف مع المحافظين. وبالنسبة لهم، كانت المباحثات التمهيدية بمثابة الدليل على أن أول ائتلاف على الإطلاق ينعقد بين الديمقراطيين المسيحيين والخضر على المستوى الوطني يمكن أن ينجح. ولا شك في أن ميركل تبقى مهندسة المشهد السياسي الذي ينتظر الآن انطلاق عملية إعادة التشكيل أو التجديد على يديها. وهي التي قدمت لحزبها المحافظ خدمة عظيمة عندما تمكنت من عصرنته ونقله إلى دائرة الوسط السياسي البعيد عن التطرف (مثلما فعل بيل كلينتون وتوني بلير). لكن، وبعد أن أدت هذا العمل، تركت الجناح الأيمن لحزبها مكشوفاً. وأدى ذلك إلى تشكيل فراغ سارع إلى ملئه الجناح اليميني الكاره للأجانب والداعية الأكبر للقومية الشعبوية، وهو حزب «البديل من أجل ألمانيا». وفيما كان معظم الألمان راغبين باستضافة أعداد كبيرة من اللاجئين، إلا أنهم شعروا بالغضب من الحكومة بسبب ما ظهر فيما بعد من نقص في قدرتها على التحكم بالأمور على المدى البعيد. ولا شك أن مسؤولية بلوغ الطريق السياسي المسدود في ألمانيا لا تقع على المستشارة وحدها. ويتعلق جزء من هذه المشكلة في أن ألمانيا أصبحت غنية جداً وعامرة بالبضائع والسلع التي تنتجها بنفسها وحيث بلغ النمو المستهدف في ناتجها المحلي الإجمالي 2,2 بالمئة، وهذا ما يفتح الباب لمشاكل وتحديات كبيرة. ويبدو أن ميركل شاركت في ارتكاب الأخطاء خلال مسيرتها السياسية الناجحة التي بلغت الآن ربع قرن، قضت 12 عاماً منها مستشارة وساهمت في توفير هذا الرخاء الذي تعيشه ألمانيا. ويمكن القول أنها شغلت منصبها بطريقة متميزة جداً. والآن يجب أن تركز إنجازاتها على إفساح الطريق أمام الأجيال الجديدة من القادة وبحيث تجعل من نفسها مثالاً ونموذجاً يحتذونه. ولا شك في أن المسؤولية التي تقع على عاتق النخب السياسية الألمانية هائلة. وأسلوب العمل الذي سينتهجونه هو الذي سيحدد تركيبة الحكومة المقبلة وقدرتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المتزايدة. والآن، ها هي أوروبا ومعها العالم تنتظر ما سوف يحدث. ------------------------------ كونستانزا ستيلزينمولير* *محللة وخبيرة ألمانية في الشؤون الأوروبية ----------------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سرفيس»