أنْ تكون في أثينا، يعني أنك في أحضان أقدم الحضارات والمستوطنات في أوروبا، وفي مهد الديمقراطية والأساطير الإغريقية، التي هي من صلب التاريخ. وعلى مرمى البصر، في أعلى الجبل، تحرسك أطلال الأكروبول، وأبطال ورموز الميثولوجيا الإغريقية، «آلهة» الحب والجمال والسلام والحرب والخصب، وأساطير زبد البحر وشجرة الزيتون المقدسة. وغصنها رمز السلام، الذي يذكرنا بتلك الحمامة التي حملت ورقة زيتون خضراء، إلى نوح بعد الطوفان، حسب ما جاء في «العهد القديم»، أن تكون في أثينا، وفي مؤتمر دولي حول «التعددية الثقافية والدينية في الشرق الأوسط»، ومع عشرات من القيادات الدينية والإعلامية والسياسية، يعني أن مسائل التطرّف والإرهاب والصور النمطية السلبية عن العرب والإسلام، وإشكاليات اللاجئين، ومصير «الأقليات»، والسلام والحرب، ستكون حاضرة في المؤتمر. أن تكون في أثينا، وبرفقة وزير التسامح الإماراتي، معالي الشيخ نهيان بن مبارك يعنيان أن تكون في حضرة من يُجسِّد مفهوم التسامح، واحترام التنوع، في فكره وسلوكه، كما في خطابه الموجه للمؤتمر، صوت الإمارات المؤثر، والنافع للسلم المجتمعي والفعل الإنساني، صوت العقل والحكمة والأنموذج الصالح، وبما يحمله من عناصر «القوة الناعمة»، وهي القوة الجاذبة، التي عبَّر عن تقديره لها، رئيس أساقفة أرمينيا، في خطابه أمام المؤتمر، وقد ضم الوفد المرافق لوزير التسامح، رؤساء كنائس ومعابد في الإمارات، قدموا خبرتهم وشهادتهم عن الحرية الدينية في الإمارات، وأشادوا بثقافة التسامح فيها، كما ضم الوفد، أحمد جلفار، ومقصود كروز، وعمر الدرعي، وفتاة إماراتية (شما الظاهري) من دائرة الإفتاء، وقد فوجئت شمّا، حينما سألها راعي الكنيسة الأرثوذكسية في جزيرة كريت اليونانية، عمّا إذا كانت راهبة! وتوجهت إليه متسائلاً، لماذا ظننت أن الفتاة هي راهبة؟ فأجاب، لأن لباسها، بعباءتها وشيلتها السوداء، مماثل تماماً لملابس راهبات جزيرة كريت،، قلت له مبتسماً، هذا يعني أن كل فتياتنا راهبات! إنه من تقاليدنا يا غبطة المطران، وربما أنتم ورثتموه، من عرب الأندلس، حينما حكموا جزيرتكم لأكثر من قرن، قبل ألف عام. تركزت معظم كلمات المشاركين على مسألة «الأقليات» في الشرق الأوسط، وما تواجهه من معاناة وقتل وتهجير، بفعل قوى التطرّف والإرهاب، إضافة إلى مسائل اللاجئين والمهجرين، وضرورة ضمان إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، وإعمار مناطقهم، كما تضمنت قضايا «مشروعية التعدد» وحقوق القوى المتنوعة في لغاتها ومعتقداتها وأعراقها، في العدل والمشاركة والتعبير والعيش المشترك، كما ضمت ورش العمل مداولات حول «دور القيادات الدينية والإعلامية في مواجهة ظواهر العنف والتطرف»، وقد أثار خطاب حاخام إسرائيلي، ومطالبته باعتراف كنسي وسياسي بإسرائيل كدولة يهودية، نقاشاً قصيراً، لم يشارك فيه ممثل إيران (سفير إيران الأسبق في لبنان، وهو الشقيق الأصغر للشيخ تسخيري)، لكن مقترحاً مدرجاً على جدول أعمال المؤتمر، حول تدويل الأماكن المقدسة، قدمه سفير اليونان لدى الاتحاد الأوروبي، أثار نقاشاً، وقلقاً لدى بعض الأوساط الدبلوماسية العربية في المؤتمر، بخاصة سفير المملكة العربية السعودية، وحاولت وزارة الخارجية اليونانية، تخفيف الأمر، من خلال حذف حرف (إس) من كلمة (الأماكن) بالإنجليزية، لكن الأمر ظل ملتبساً، وبدا لي أن الضرورة والأمانة الفكرية، تقتضي التدخل، لإفشال هذا الاقتراح، والرد على موضوعات أخرى مطروحة للنقاش، تساءلت مستغرباً كثرة الحديث عن معاناة «الأقليات»، وقلت، ماذا عن معاناة «الأكثرية» في الوطن العربي؟ ماذا عن قتل مئات الآلاف من «الأكثرية» في هذه الحروب العبثية؟ وتدمير مجتمعاتها ونسيجها الاجتماعي، ومؤسساتها وتهجيرها؟ لقد قتل الإرهاب منها عشرات أضعاف ما قتلهم من «الأقليات»، وإن أعداد المسلمين من اللاجئين في العالم، تزيد عن 70 بالمائة، وقلت في ثقافتنا العربية لا نستعمل مصطلح «الأقلية،» باعتبار أن النصارى العرب هم جزء أصيل من المجتمعات العربية، ولم يأتوا الأوطان العربية كمهاجرين، وهم شركاء في بناء الحضارة العربية الإسلامية، وبناء المستقبل، وتساءلت أيضاً، لم أسمع أحداً في المؤتمر يتحدث عن معاناة مهاجرين ولاجئين مسلمين في أوروبا، ولا عن معاناة واضطهاد الأقلية من مسلمي الروهينجا، الذين عانوا من نمط منهجي من القتل والحرق والاغتصاب، حسب محققين من الأمم المتحدة، وقلت: أيها الأصدقاء نحن بحاجة إلى أن نحيي الضمير الروحي الإنساني لدى اتباع الديانات، والمذاهب، وأنْ ننبذ المعايير المزدوجة في خطابنا وأحكامنا، وأن نقف معاً، ضد أي امتهان لمقدسات أي منا، أياً كان مصدره، وأن نؤكد على أنه لا يجوز أن يُساء إلى الإنسان، بسبب عرقه أو ثقافته أو جنسه أو معتقده، وإن الهُوية الوطنية والمواطنة المتكافئة توحد أبناء الوطن على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وهي تشكل الأساس لوحدتهم ولاحترام خصوصياتهم الدينية والثقافية. أيها الأصدقاء، استغرب صمت كثيرين في الغرب، وبخاصة القادة الدينيين، أمام اختطاف المطران يوحنا إبراهيم، مطران السريان الأرثوذكس في حلب، منذ أكثر من أربع سنوات، وهو رجل حوار وسلام وتسامح وتعددية، كما استغرب تقاعس كثيرين، ممن يكثرون البكاء على تراجع الوجود المسيحي في الشرق، عن العمل الإيجابي والنزاهة الفكرية، وعن الوعي الحقيقي بجذور الإرهاب ومموليه ورعاته وداعميه، والمستثمرين فيه، وعن دور نزيه مشترك للقيادات الدينية في مواجهته، هل أذكركم، بمن قام بترميم أسوار كنيسة المهد في بيت لحم، حينما دمرتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في منتصف التسعينيات؟ هل أذكركم بمن رمم أقدم وأكبر كنيسة في أرمينيا؟ هل أذكركم بمن أعاد بناء وترميم أكثر من ثمانين كنيسة مصرية، حرقها الإرهاب في ليلة سقوط حكم «الإخوان» في مصر؟ إنها دولة عربية مسلمة اسمها، الإمارات العربية المتحدة، ورداً، على ما قاله الحاخام الإسرائيلي، قلت مخاطباً المؤتمر، كنت أتمنى لو كان في المؤتمر، ممثلون للكنائس العربية، (الكنيسة الأرثوذكسية)، من أبناء الأراضي المحتلة وبخاصة القدس، ليحدثوكم عن معاناتهم تحت الاحتلال، وعن اتهامهم للبطاركة اليونانيين الأرثوذكس، ببيع أملاك الكنيسة إلى شركات وهمية تبني المستوطنات، ويحدثونكم عمن هجّرهم من أرض المسيح، عليه السلام، ويخبروكم عن تفريغ القدس وبيت لحم من المسيحيين، لم يبق في القدس منهم، سوى بضع مئات، بعد أن كان عددهم أكثر من ثلاثين ألفاً، حينما احتلت إسرائيل القدس عام 1967.. القدس مدينة السلام والتسامح لا تعرف التطرّف ولا «داعش» ولا «القاعدة»، إنما عرفت الاحتلال العنصري، وعانت من عسفه، وظلمه، وقوانينه المنتهكة لحقوق الإنسان، وسياساته في التهجير والتنكيل، وطرد المقدسيين الأصليين من مسلمين ومسيحيين من بيوتهم وأملاكهم. كنت أتوقع من المتحدث، الحاخام، كرجل دين، أن أسمع منه شيئاً، من النزاهة الروحية والأخلاقية، والعدل والإنصاف، والانتصار للمظلومين والمضطهدين، بغض النظر عن دينهم، من ناحية أخرى، فإن إقحام المؤتمر، في إدراج مقترح لتدويل الأماكن المقدسة، في أجندته، والسعي لاستصدار قرار أممي في هذا الشأن، هو أمر سلبي، وغير موضوعي، فضلاً عن غموضه، من حيث مصدره (اجتماع عشرة أشخاص غير معروفين، في خلوة بجزيرة كناري)، ومعالمه الجغرافية وأهدافه وغموض مفهوم السيادة... الخ. عن أية أماكن مقدسة في الشرق الأوسط يتحدثون؟ هل هي مكة المكرمة، أم المسجد الأقصى، أم كنيسة القيامة، أم دير وادي النطرون، ودير سانت كاترين في سيناء، أم النجف وقم، أم قبر الرجل التركي المتصوف واسمه يوسف، بجوار مدينة نابلس؟ وغيرها. إن مثل هذا المقترح الملتبس، لا يخدم الحوار الديني، ولا الوئام المجتمعي، ولا الاحترام المتبادل، إنما يشعل الفتن الدينية، والمذهبية، إن لكل أهل دين خصوصياتهم الدينية، ولكل فرقة أو مذهب داخل الدين الواحد، خصوصياته الفكرية. والأصل أن يكون تصرف أهل الأديان جميعاً، مراعياً هذه الخصوصيات، والمشاعر والرموز والمقدسات الدينية. والعيش الواحد، في آن. والحرص على حفظ حرمة أصحابها، واحترام حق الآخر في اعتقاده، والوقوف معاً ضد أي انتهاك أو امتهان لمقدسات أي منهم، أياً كان مصدره.