لقد بقيت فكرة «إجماع بكين (أو محور بكين)، ماثلة في مخيلاتنا لفترة من الزمن باعتبارها تشكل البديل المفترض لفكرة «إجماع واشنطن»، وهو مصطلح مرادف لمعنى «اقتصاديات السوق الحرة»، أو «اقتصاديات النموذج الغربي»، ولهذا السبب فإن من المفترض أن يقدم مصطلح «إجماع بكين» البديل المقبل لدول الغرب ذات الأسواق المخترقة. ومنذ الأزمة المالية التي ضربت العالم عامي 2008 و2009، أصبح مصطلح «إجماع بكين» أكثر بروزاً وقدرة على اجتذاب دول العالم النامي وخاصة في أفريقيا، وكانت دول مثل إثيوبيا ورواندا وحتى جنوب أفريقيا قد انجذبت إليه. وتكمن المشكلة في أن «هواة الحكم الاستبدادي» يحلمون في كل مرة ببلوغ مستوى النجاح الضخم الذي حققته كيانات بشرية صغيرة الحجم مثل سنغافورة، أو ربما كبيرة الحجم مثل شنغهاي، ولم تتداعَ إلى أذهان هؤلاء صورة الفقر المدقع الذي تعاني منه المناطق الزراعية في الصين، ولا شك أيضاً أنهم لم يفكروا بالأحوال المزرية التي بلغتها زيمبابوي التي آثرت تبني النموذج الصيني بكل دقة خلال العقود الأربعة الماضية. وخلال معظم هذه الفترة الطويلة، بقي الزعيم الذي لا ندَّ له ولا نظير، هو روبرت موجابي الذي بلغ الآن عامه الثالث والتسعين. ويوم الثلاثاء الماضي تم وضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله على أثر انقلاب عسكري (على الرغم من أن العسكر وصفوا ما حدث بأنه حركة تصحيحية تمت من دون أن تسيل نقطة من الدماء). وكان موجابي يحرص على النطق بلغة ماركسية وماويّة منذ لمع نجمه كمقاتل ثائر في ستينيات القرن الماضي، وكان يقاتل ضد الأقلية البيضاء التي كانت تحكم زيمبابوي التي كانت تدعى في ذلك الوقت «روديسيا الجنوبية». وعندما أصبح رئيساً للبلاد عام 1987، فلقد فضَّل اتباع النهج الصيني حين آثر استخدام الوسائل الإرهابية ضد خصومه، وقام بعملية تطهير واسعة النطاق في أوساط المقربين منه تحت شعار «الثورة الثقافية». وما لبث أن لجأ لاستخدام لغة أكثر حداثة عندما تحدث عن «رأسمالية الدولة» مكرراً كلمات ومصطلحات مثل «التوطين» بدلاً من «التأميم»، ودعا إلى «تأسيس الحكومة المبنية على أساس النتائج والإنجازات التي تعتمد على استخدام الموارد الوطنية إلى الحد الأقصى»، إلا أن النتائج بقيت دون المستوى وأدت هذه الحكومة التي يقودها شخص منفرد لعدة عقود، إلى كارثة حقيقية. وفي شهر مارس 2008، لجأ موجابي إلى العنف حتى يضمن الفوز في دورة انتخابية ثانية بعد أن خسر جولتها الأولى. وفي شهر نوفمبر 2008، بلغ معدل التضخم في زيمبابوي رقماً خيالياً لا يكاد يُصدق وقدِّر بنحو 79.6 مليار بالمئة! وهو من دون شك الأعلى في التاريخ، والآن لا تعمل البنوك إلا وفق أضيق نشاطاتها، وبعد أن كانت زيمبابوي في الماضي البعيد واحدة من أكثر دول أفريقيا امتلاكاً للثروات والموارد المحلية، أصبحت الآن البلد الأكثر فقراً في أفريقيا. وفي غياب أي عنصر من عناصر الديمقراطية، ومن دون وجود أي طريقة قانونية لنقل السلطة، بدا من المستحيل عزل موجابي من منصبه. وفي غياب أضيق معنى من معاني الحرية الاقتصادية وحكم القانون، فلم يكن هناك من مستفيد من الثروات المحلية إلا ذوو الاتصالات الشخصية مع الطبقة المهيمنة على السلطة. وبدا بوضوح أن تدخل الجيش كان يمثل الفرصة الأخيرة لتغيير هذا الواقع المرير. وخاصة بعد أن اتضح أن موجابي كان يعمل على نقل السلطات إلى زوجته المكروهة على نطاق واسع في أوساط شعب زيمبابوي. وربما يسجل تدخل العسكر نهايته المأمولة، وربما يؤدي بالبلاد إلى المجهول. وسألت أحد سكان زيمبابوي المقيمين في دول الشتات عن شعوره إزاء الانقلاب الأخير فأجاب بلهجة يائسة: «كل شيء يمكن أن يمثل تطوراً أو مخرجاً من الحال السيئ الذي تعيشه البلاد». إلا أن بقاء النظام القديم وبحيث يقوده شخص جديد وقوي لن يؤدي إلى التغيير المطلوب. ويبقى الأمل الوحيد معلقاً على التأسيس لشكل جديد من تقاسم السلطة وإنهاء المركزية الاقتصادية وإتاحة الفرص أمام الشركات الصغيرة للعمل وتغيير الواقع الاقتصادي والمعاشي المزري. آن آبلباوم محللة سياسية أميركية حائزة على جائزة «بوليتزر» ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"