نظرية الارتباط، تميز بشكل دقيق بين الارتباطات التي تكوّنك، والأشياء التي تفعلها بعد ذلك من أجل نفسك. والارتباطات التي تكونك هي في غالبيتها أشياء ليست من اختيارك مثل: عائلتك، ومسقط رأسك، ومجموعتك العرقية، ودينك، وأمتك، وجيناتك.. أما الأشياء التي تصنعها في حياتك، فهي في غالبيتها مختارة مثل وظيفتك، زوجتك، وهوايتك. عبر معظم فترات التاريخ الأميركي، كان مجتمعنا مبنياً على نفس النوع من التمييز بين ما هو غير مختار، وما هو مختار في حياتنا. لكننا كنا، من حيث الأساس، مجتمعاً يتمتع بارتباطات تعاهدية، مع العائلة، والمجتمع المحلي، والعقيدة، والإيمان، وعلى قمة كل ذلك، بنينا الديمقراطية والرأسمالية، اللتين احتفيتا بالحرية، والحقوق الشخصية. وقد أعطت المؤسسات التعاهدية العميقة الناسَ القدرةَ على استخدام حريتهم بشكل جيد، أما المؤسسات الليبرالية فهي التي كانت قد منحتهم تلك الحرية في الأساس. وهذا التوازن الدقيق- المؤسسات الليبرالية المبنية فوق مؤسسات غير ليبرالية- بدأ يختل حالياً. فالحركات الاجتماعية الكبرى خلال نصف قرن الأخير، كانت تدور حول تعظيم حرية الاختيار، حيث كان اليمينيون يريدون تعظيم أهمية الخيار الاقتصادي، فيما كان اليساريون يريدون تعظيم أسلوب الحياة. وأي شيء كانت تفوح منه رائحة القيود، كان يتحول تلقائياً لشيء سيئ، يجب التخلص منه. سنطلق على ذلك «رؤية عالمية» - وكلها عبارة عن حرية من دون عهد- أو ليبرالية عارية. والمشكلة المتعلقة بالليبرالية العارية، هي أنها تعتمد على أفراد لا تستطيع إيجادهم. هذه تحديداً هي النقطة التي ركز عليها «يوفال ليفين» في مقالة رائعة نشرت في مجلة First Things، عام 2014، قال فيها إن الليبراليين العراة من اليمين واليسار، يفترضون أنك إذا ما منحت الناس حرية، فسيستخدمونها في العناية بجيرانهم، وإجراء مناقشات مدنية، وتكوين آراء بعد فحص الأدلة. لكن إذا ما قمت بإضعاف العائلة، والإيمان، والمجتمع، وأي إحساس بالالتزام الوطني، فمن أين ستنبع التكوينات الاجتماعية، والعاطفية، والمعنوية؟ وكيف ستتكون تلك العادات الفاضلة؟ إن الليبرالية العارية، جعلت مجتمعنا يبدو مثل شجرة غير مستقرة، تتمدد فيها فروع الحقوق الشخصية، وتذوي جذور الالتزام المشترك. الحرية من دون عهد، تصبح أنانية، وهذا ما نراه في المجتمع الأميركي، سواء في سياساتنا، أو في أزمتنا المالية. والحرية من دون اتصال، تتحول إلى اغتراب، وهذا ما نراه في قمة المجتمع في صورة مجتمعات محلية مهترئة، وأسر ممزقة، وإدمان للمخدرات. فالحرية من دون سردية وطنية موحدة، تتحول إلى عدم ثقة، واستقطاب، وحرب سياسية دائمة. والشاهد أن الناس يستطيعون تحمل الكثير، إذا ما توافرت لديهم قاعدة آمنة، لكنك إذا ما أخذت الارتباطات التعاهدية منهم، فإنهم يشعرون بالهشاشة. وإلى ذلك، إذا ما حرمت الناس من الارتباطات التعاهدية الجيدة، فسيسعون لتكوين ارتباطات سيئة. فأول شيء سيفعلونه في هذه الحالة هو أن يعرّفوا أنفسهم بناءً على جنسهم العرقي، وسيصبحون أصوليين عنصريين تراهم على اليمين وعلى اليسار، ممن يؤمنون بأن الأشخاص الوحيدين القادرين على معرفتهم، هم الأشخاص المنتمون لعرقهم، وبأن الحياة عبارة عن لعبة عصرية بين جنسهم العرقي والأجناس العرقية الأخرى. بعد ذلك سيلجأ هؤلاء الناس إلى العشائرية. وهذا تحديداً هو ما يقدمه دونالد ترامب لهم. وكما يقول «مارك إس وينر» في بلوج «مركز نيسكانين»، فإن ترامب يميز دائماً بين الأصدقاء والأعداء، ويستغل مفهوم الليبرالية للمجتمع، ويخلق مجتمعات متعادية قائمة على المنافسة بين من هم داخل المجموعة ومن هم خارجها. وترامب في الواقع يقدم للناس حلولاً ثقافية لمشكلة اغترابهم. وكما يظهر التاريخ بوضوح، فإن الناس يفضلون الفاشية على العزلة، والسلطوية على الفوضى الأخلاقية. وكي يكون لدينا مجتمع لائق، سيتعين علينا إنقاذ الليبرالية من نفسها. كما سيتعين علينا أيضاً أن نعيد السحر مجدداً للعلاقات التعاهدية، التي تمثل الأساس للصفقة كلها. وساحة المعركة المهمة هنا هي ساحة ثقافية وما قبل سياسية. من واقع تجربتي، أستطيع القول بأن معظم الناس تحت سن 40 عاماً يدركون ذلك. فهم يشعرون بالفراغ الاجتماعي، والأخلاقي، وبأن التغيير يجب أن يتم على المستوى المجتمعي والعاطفي والأخلاقي. وهم يفهمون أن الشعبوية حركة اجتماعية واسعة، تشمل السياسة، لكنها تمتد بعيداً إلى ما وراءها. ولمعالجة ذلك، سنكون بحاجة إلى مواجهتها بحركة اجتماعية واسعة أخرى مضادة لها. الكثيرون ممن هم في عمري أو أكبر قليلاً، يبدون من غير بوصلة، لأن قادتنا المنتخبين نشأوا في ذروة الليبرالية العارية، وما زالوا يتكلمون كما لو أنهم يعيشون في عام 1994. كما أن معظم المثقفين العموميين تلقوا تعليماً في العلوم الاجتماعية، ويعتبرون اختيار الأفراد هو نقطة البدء الذهنية بالنسبة لهم. وهم يعانون من مشكلة في التفكير حول مؤسساتنا الاجتماعية، والأخلاقية التكوينية المشتركة، والكيفية التي يمكن بها إعادة تشكيل هذه المؤسسات. يعتقد جمهوريو الكونجرس أن مشروع قانون الضرائب الناجح، سيحبط الشعبوية. أما الديمقراطيون من التيار الرئيسي فيعتقدون أن مشكلة الاغتراب ستختفي، إذا ما قمنا بإعادة توزيع الفتات على قاعدة أوسع قليلاً. أما خبراء السياسة في واشنطن، فيبنون قلاعاً على الرمال، لا تني تتعرض للانجراف بفعل تيارات المد السياسية. يحفل التاريخ بالعديد من الأمثلة لأمم نجحت في بناء سرديات وطنية جديدة، وأحيت الحياة الأسرية، واستعادات الروابط المجتمعية، واقتسمت الثقافة الأخلاقية، مثل بريطانيا في بدايات القرن التاسع عشر، وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وأميركا في العهد التقدمي. والخطوة الأولى في تدشين مشروع الإحياء الخاص بنا، هي فهم أن المشكلة تكمن أساساً في الجذور. ديفيد بروكس كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»