بعد ثورة عام 1917، أصبحت روسيا بلا حاكم، وكانت بالطبع إحدى أكبر دول العالم يومذاك، والخصم التاريخي اللدود للعثمانيين والإيرانيين والألمان والنمساويين وغيرهم. وكانت حكومة «كيونسكي» تعمل كما وصفها البعض «كدجاجة بلا رأس». وتظاهر البلاشفة، كما يقول الصحفي أمير طاهري «بأنهم قادرون على شغل هذا الفراغ، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أنهم عاجزون عن ذلك، فقد كانوا حزباً صغيراً قوامه من المفكرين من الطبقة الوسطى الحضرية، وأكثرهم عائدون من المنفى وغير متواصلين مع روسيا». [الشرق الأوسط 11-10-2017]. وشبيه هذا ما تكرر حدوثه للاتحاد السوفييتي عشية سقوطه في أيامه الأخيرة التي عشناها بين مصدق ومكذب، في نهاية القرن الماضي. أعاد التاريخ نفسه في روسيا! فقد سقط النظام القيصري والشيوعي من بعده بسبب الفشل والإنهاك والأدلجة والضياع السياسي، أكثر ربما من أي عملية أخرى! رغم أن الفارق بين الحدثين عام 1917 و1991 أو 1989، أكثر من سبعين سنة، من التنظير والعذاب والبناء والآمال والمقاومة والجدل.. وكل شيء.. ثم لا شيء! لم تتجاوز روسيا خلال قرن كامل نقاط ضعفها، ولم تصل رغم كل ما كان في روسيا القصرية والاتحاد السوفييتي من عبقريات علمية وأدبية وفنية، إلى مصاف دول أوروبا الغربية، وإن تجاوزتها ربما في بعض المجالات العسكرية. وحتى «روسيا الاتحادية» اليوم، بعد زوال النظام الاشتراكي وانتهاء الاقتصاد الموجه ومرور ربع قرن على «روسيا الرأسمالية»، لم نرها تبرز في مجال صناعي، ولا تجد اليوم في الأسواق، طائرة أو سيارة أو دراجة نارية، أو ماركات إلكترونية، أو دواء أو سلسلة مطاعم أو فنادق، أو أي منتج روسي ذي شهرة عالمية، وتفوق لا يُباري! وصارت إيران تنافسها في إنتاج الكافيار. صحيح أن روسيا لا تزال متفوقة في إنتاج الطائرات الحربية والسلاح والصواريخ، ولكن لا شيء من هذه العبقرية يتسرب بشكل ملحوظ إلى الصناعات المدنية، لينافس إنتاج روسيا طائرات البوينج والإيرباص والسيارات الروسية والألمانية والأميركية واليابانية، بل وحتى الكورية الجنوبية التي باتت كلها تملأ شوارع مدن روسيا المعاصرة وأريافها. لماذا نجح اليابانيون والكوريون والصين الكبرى وصين تايوان ونمور آسيا، هذا النجاح الصناعي والإنتاجي والمالي المذهل، فيما ظلت روسيا رغم غناها، فقيرة متخبطة، تسلم من اللصوص كي تقع ضحية للمافيات والمخادعين والمنجمين؟ أين مثلاً الأثر الإنتاجي لكل تلك «الخطط الخمسية» والجامعات والسدود والمزارع الجماعية وكهربة الريف وآلاف الشعارات والإنجازات الأخرى التي تبخرت في ظل المنافسة العالمية اليوم، ولم نعد نتابع فيما يبرز إلا المافيات الروسية، وشراء الشقق الفاخرة في لندن وباريس ونيويورك وإسبانيا، والتنافس في اليخوت والطائرات الخاصة وحفلات الزواج الباذخة.. ومطاردة المعارضة! وكيف ثار الروس على تراث ستالين والإعلام الموجه وغياب الحريات، ليستسلموا مرة أخرى لزعامات تحاصر الحريات وتقمع الصحفيين؟ لقد قالت «المادية الجدلية الديالكتيكية» الكثير عن فلسفة التغير، و«تحول التراكم الكمي إلى تغير كيفي»، وبرزت في روسيا عبقريات علمية وفنية وأدبية وتقنية، وبذلت الدولة والناس جهوداً وتضحيات كبرى، فلم لم يتغير الكثير؟ لقد تم مثلاً تأميم الطب في روسيا منذ قرن، وتعرفت روسيا عن قرب على طب الفضاء، واحتك أطباؤها بأمراض كل دول العالم، ولكن هل تقود موسكو وسان بطرسبورغ اليوم البشرية في مجال الدواء والعلاج وطول العمر؟ وقدمت روسيا أنظمة من كل لون في مجال الإنتاج الزراعي، فهل قدمت منتجات جديدة، وهل باتت تنافس دول الغرب في علم الجينات وتطوير الحبوب وغذاء الحيوانات؟ وحصلت روسيا على مليارات الدولارات من تصدير النفط والغاز، وبيع الخبرات الدفاعية والسلاح، فماذا فعلت بتلك الأموال، وهي دولة غير ريعية مثلنا، إن كان لا يزال متوسط الدخل السنوي للمواطن الروسي، كما تؤكد إحصائيات 2017، أقل من 26 ألف دولار، أي نحو نصف دخل الإنسان الأميركي (نحو 56 ألف دولار للفرد) وربما ثُلث دخل السنغافوري (85 ألف دولار) وأقل حتى من الإسرائيلي (نحو 35 ألف دولار) والبرتغالي (نحو 28 ألف دولار). وقد برزت إسرائيل بعد هجرة العلماء الروس إليها، وصارت الدولة الأولى عالمياً في كتابة الأبحاث العلمية وتسجيل حقوق الاختراع، وصارت إسرائيل نفسها من أكثر دول العالم تقدماً وجامعاتها من أبرز الجامعات.. فأين روسيا من كل ذلك؟ كتبت الباحثة «ماري ماندريون» في «اللوموند دبلوماتيك» قبل سنوات أن روسيا تمتلك 23% من غابات العالم ولكنها لا تنتج إلا 2% من إنتاج الخشب. وتقول إن السبب كان وقوع الغابات ضمن نظام معتقلات «الكولاغ» السوفييتية الرهيبة، حيث كانت السلطات تمتلك مخزوناً من قوة العمل المجانية بين السجناء. ويقول باحث روسي في وصف المجتمع: إن روسيا اليوم «تعتبر نظاماً منبثقاً من الانهيار الخاطف لجميع التوجهات الأخلاقية والمثل الاجتماعية». وبالرغم من الاغتيال المدوي للعديد من الصحفيين، كما يضيف «فإن بعض الصحف تنتقد النظام جهاراً. وتعمل روسيا وفق قوانين وقواعد خاصة بها، فالبلد ليس سوى انعكاس شاحب للديمقراطية الأوروبية. ليست ديكتاتورية شرقية معدلة، بفضل علاقات أتباعها مع التاريخ الأوروبي، وليست الاتحاد السوفييتي المنبعث في أيديولوجيته المسيطرة» [اللوموند دبلوماتيك العربية، أكتوبر 2010]. إن المدن الروسية الكبرى، يلاحظ المحللون، نستقبل بث المحطات الأجنبية، وخلافاً للصين لا تحظر روسيا أي مواقع على شبكة الإنترنت. وقد شهد النظام الصيني في ظل الشيوعية ما عانته روسيا في ظل ستالين، بل كان في الحقبة نفسها أكثر قمعية بكثير، ويتم التحكم بالمجتمع الصيني بقوة أكبر من الاتحاد السوفييتي. غير أن النظام السوفييتي، على الرغم من كونه أكثر تطوراً بكثير، إلا أنه غرق في الركود، ثم تبين أنه عاجز عن السير في إصلاحات فعالة رغم أنها كانت ضرورية وكانت البلاد مستعدة لتقبلها.