دق ساعي البريد على بابي صباحاً في مونتريال. إنه يحمل مغلفاً كبيراً. على الأغلب هو كتاب. العنوان من الإمارات. حسناً. فتحته عنوان الكتاب «لا تستسلم» للمفكر الاستراتيجي الإماراتي د. جمال سند السويدي. هذه المرة ليس كتاب سياسة وأفكار استراتيجية، بل رحلة معاناة طويلة مع السرطان تكللت في النهاية بقهره! في الواقع هذه التجربة الإنسانية هي السياسة العظمى، في كيفية مواجهة المفكر قدره وهو يهدد بالموت. لقد أثار اهتمامي النموذج وأنا الطبيب الجراح، فمن ينجو من براثن السرطان في العادة هو الاستثناء، ولذا كان اهتمامي مضاعفاً بالاطلاع على تجربة المفكر الاستراتيجي د. السويدي. من خلال رحلتي الطويلة في الطب وقاعات العمليات على مدار أربعين عاماً، يمر أمامي شريط من مرضى كشفنا عندهم السرطان، أو عالجناهم لتخليصهم منه بالجراحة، أو أخضعناهم للعلاج الكيماوي والشعاعي، أو تابعناهم بالمورفين كي يموتوا بسلام. حسبما فهمت من قصة الدكتور جمال، أنه صعق من الطبيب وهو يصارحه بجلافة وغلظة أن أمامك أسبوعين للحياة! وهذا تهور من الطبيب! نحن في العادة حين نكتشف السرطان، وفي أي مرحلة هو، نحاول أن نكون حكماء في توريد المعلومة. ومنه سمي الطبيب حكيماً، فعلى الطبيب هنا أن يتحلى بضرب من أخلاقيات الطب. وأخلاقيات الطب تعني الرفق بالمريض، فهو يراقب شفتي الطبيب ليسمع الطمأنينة عن مرضه، ولو كان مرضاً بسيطاً. ربما لو تعرض الطبيب لهذا لكان ارتكاسه أشد! يريد المريض أن يرى في تضاعيف وظلال الكلمات نوعاً من الأمل والسلوى، فهذه كانت الخطيئة الأولى التي قام بها الطبيب، حين قال للمفكر د. السويدي خلال أسبوعين ستموت! هكذا استفتح الدكتور جمال قصته بهذه الصدمة. حالياً لم يعش أسبوعين فقط، بزعم الطبيب الهمام، بل نجا من براثن السرطان، وربما أثناء هذا مات الطبيب نذير الشؤم، وثبت أنه يمكن قهر السرطان. وأنا شخصياً واجهت العديد من حالات السرطان، وعالجت بعضها. منها «سرطان معدة» قمت باستئصال معظمها عند شيخ في الثمانين في مدينة النماص في عسير، ومنها سرطان القولون عند مريض من بيشة أجريت له العملية، وأنقذته من السرطان في مدينة الدمام في السعودية، وكلتا العمليتين وثقتها بالصور. ومنها أيضاً ما قمنا به لسيدة في ألمانيا، أصيبت بسرطان في الثدي، فتم استئصال الثدي مع تفريغ العقد اللمفاوية في الأبط. وعدد العمليات والأرواح التي أنقذناها، والأطراف التي نجت من البتر، تحتاج لكتاب خاص من ذكرياتي على امتداد أربعين سنة في الجراحة. وحالياً هناك أفكار حول مكافحة السرطان بغير الطريق التقليدي، بترويض نفس الكريات البيضاء، على صراع جديد لكشف الخلايا المتمردة وقهرها من دون دواء خارجي، ذلك أن أجسادنا فيها جهاز مناعي يكشف حصول التمرد الخلوي. نعم السرطان هو ضرب من تمرد خلوي على النظام في الطبيعة والزمان والمكان فيغادر مكانه في غزوات فاجعات فيضرب الأعضاء النبيلة فتدمر! والمشكلة في السرطان أنه عالم جديد يطل بقرنيه من عالم الطب، تماماً كما كشف الطب عن عالم الجراثيم ثم لاحقاً عالم الفيروسات، وفي إنفلونزا 1918م مات في أميركا وحدها أكثر من 600 ألف إنسان، ولم يكن الفيروس معروفاً بسبب ضعف المجاهر عن رؤيته، حتى وصلنا إلى اختراع «المجهر الإلكتروني» فعرفنا أن عالم الفيروسات بدوره أنواع شتى. إن تجربة الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي يجب أن تعمم وتكون قصة تقرأ من كل إنسان مريض وغير مريض، ليعرف أسرار الرحلة، وأن اجتماع التكنولوجيا وإرادة الإنسان هما الطريق الذي يقود للنجاة ولو في بعض مسالكه. وتمنيت عليه أن يختصر الرحلة في كتيب لا يتجاوز 150 صفحة يتحدث فيها عن هذه الرحلة الروحية وما هو السرطان وكيف يقهر؟ لقد أثارتني قصة الكاتب من الزاوية الطبية، وفي جعبتي قصص كثيرة، وأنا رجل متتبع لتطورات الطب يوماً بيوم، وما زال الطب في خطواته الأولى في قهر السرطان، والولوج إلى عالمه ومعرفة أسراره على وجه الدقة.