للمرة الثانية، بعد خطابه الشهير في قمة «دافوس» الأخيرة، كرّر الزعيم الصيني شي جيبينغ دفاعه عن العولمة وعن حرية التبادل التجاري، في قمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ «أبيك». ومجدداً، وفي هذه القمة الأخيرة التي انعقدت في مدينة دانانغ الفيتنامية، ذكّرنا جيبينغ بدور العولمة والتجارة في نقل مئات ملايين الصينيين من الفقر إلى الغنى، أو على الأقل الراحة المادية. ومباشرة أو مداورة، يستهدف الخطاب السجالي الصيني الولايات المتحدة الأميركية في عهد دونالد ترامب. فالرئيس الأميركي، ومنذ ترشّحه للرئاسة، لم يفوّت فرصة في الدفاع عن القومية والحمائية الاقتصاديتين، وعن مبدأ «أميركا أولاً» مع مطالبة باقي الزعماء بأن يجعلوا بلدانهم، هم أيضاً، «أولاً» بالنسبة لهم. هذا ما فعله بوضوح وصراحة في قمة دانانغ الأخيرة. والمقارنة بين دعوتي شي جيبينغ للحرية الاقتصادية ودونالد ترامب للقومية والحمائية، تشير إلى أن الصين هي اليوم الطرف الصاعد و«الجديد» في العالم. ولكنها تنم أيضاً عن كون هذين الاطمئنان والثقة في الحيّز الاقتصادي سيمتدان، عاجلاً أو آجلاً، إلى الحيّزين السياسي والعسكري. وهذا ما تدل عليه بالفعل تحولات كثيرة في عدادها بناء القواعد العسكرية في بحر الصين الجنوبي ومخاوف عدد من البلدان الآسيوية (اليابان، الهند، فيتنام...) من تنامي قوة بكين العسكرية. هذا فضلاً عن توسع علاقات الصين السياسية والدبلوماسية (إلى جانب التجارية) مع عدد لا يُحصى من بلدان العالم التي تتجاوز قارّتها الآسيوية. وهذه جميعاً مؤشرات إلى ما يعتبره كثير من المراقبين دخولاً في «القرن الصيني»، وخصوصاً في ظل الانحسار الذي يعانيه النفوذ الغربي، الأميركي والأوروبي، على جبهات ومستويات اقتصادية وسياسية. ولكن هذا التقدير المتفائل لا يزال يصطدم بعقبات كثيرة أهمها على الإطلاق مسألة النموذج وما يحمله من قيم. ذاك أن أعمال التوسع العسكري والاقتصادي الكبرى في التاريخ كانت تنقل معها على الدوام نموذجاً وقيماً إلى حيث تذهب. هكذا انتقلت مع الحروب النابليونية في أوروبا، مطالع القرن التاسع عشر، أفكار التنوير والحرية والقومية، وهي الأفكار التي أدى اعتناقها من قبل شعوب القارة إلى مقاتلة النفوذ التوسعي الفرنسي نفسه. والشيء نفسه يمكن قوله عن أوروبا الاستعمارية في أواخر القرن التاسع عشر، وهي التي حملت إلى العالم منتجات الحداثة السياسية والصناعية، كالديمقراطية والبرلمان والحزب والنقابة والصحافة. وإنما بهذه الأدوات إياها خاضت الشعوب معاركها الاستقلالية ضد القوى التي تستعمرها، لتظفر من ثم باستقلالاتها. وكذلك ارتبط توسع الدور الأميركي في العالم، وأغلبه غير عسكري، بانتقال «نمط الحياة الأميركي» إلى سائر أرجاء المعمورة. ومن خلال السينما ثم التلفزيون، وسواهما من الأدوات، انتشرت فكرة الفردية، ناهيك عن أشكال في التربية وفي المأكل والملبس. ولا نزال نذكر أي دور بارز لعبته الأشكال المذكورة ورموزها (بنطلون الجينز...) في تصديع الاتحاد السوفييتي ودول كتلته إبان أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. وفي هذا المعنى، تعاني الصين افتقاراً هائلاً إلى النموذج وما قد يمثل محمولها القيميّ. والحق أن ما تملكه الصين إنما هو نموذج مضاد يصعب أن يغري سواه، ولاسيما في زمن توسع التواصل الاجتماعي وحرياته. فالرقابة هناك لا تزال مشددة بما يخدم حكم الحزب الواحد، ما يعني تضارباً حاداً بين الاندفاع في طريق العولمة الاقتصادية والاندفاع في طريق التشدد السياسي والإعلامي. ولا يكتم نقّاد الدور الصيني خوفهم من أن ينعكس هذا التضارب على الأداء الاقتصادي الصيني نفسه فيحدّ منه إن لم يؤدِّ إلى تصديعه. وهذا، في نهاية الأمر، ما قد يشكل كعب أخيل الدور الصيني في سعيه إلى تزعم العالم. ------------- حازم صاغيّة* * محلل سياسي- لندن