قد يبدو من الصعب تصنيف كتاب «عقلاء في القاعة»، فهو من الناحية الظاهرية رواية واقعية كتبها وزير المالية اليوناني السابق «يانيس فاروفاكيس» حول مفاوضاته مع «الترويكا»، التي تضم البنك وصندوق النقد الدوليين والمفوضية الأوروبية، بشأن أزمة الديون اليونانية. ورغم ذلك يبدو الكتاب أحياناً مثل رواية خيالية تتركز على الترحال، وبطل ركوب دراجات نارية يحارب قوى الظلام والجهل، لكن في نهاية المطاف، قد يكون من الأفضل فهمه كقصة لأكاديمي مثالي أصبح متورطاً في معارك سياسية عميقة، لم يكن يتعاطف معها أو يتفهمها بشكل كبير. وقد تركت الأزمة الماليةُ اليونانَ مفلسةً وفي حالة انهيار اقتصادي واجتماعي. وفي كتابه الجديد «عقلاء في القاعة»، يزعم «فاروفاكيس» أنه كانت لديه خطة من شأنها إنهاء معاناة اليونان وإعادة إنعاش الوضع في أوروبا، بيد أنه من أجل إقناع «الترويكا» بقبولها، كان يقتضي التهديد بتخلف اليونان عن سداد الديون، ومن ثم الإضرار المحتمل بالبنوك الألمانية والفرنسية (التي تدين لها اليونان بمعظم ديونها)، ومنطقة اليورو بأسرها، وقد أقنع «فاروفاكيس» رئيس الوزراء اليوناني اليساري «أليكس تسيبراس» بقبول خطته، ومن ثم طلب «تسيبراس» من «فاروفاكيس» أن يصبح وزيراً للمالية من أجل تنفيذ خطته. وتردد «فاروفاكيس»، الذي كان أكاديمياً حذراً من المعترك السياسي، لكنه قبل في نهاية المطاف، متأثراً بالتماسات «رجل مشرد» حضَّه على «تذكر» الشعب، وإدراك أن «حدثاً تاريخياً منحه فرصة نادرة لفعل ما هو صواب، وقول الحق أمام السلطة، والعمل على تحقيق تعافٍ اقتصادي حقيقي في أرض اليونان الضائعة!». وهكذا سعى «فاروفاكيس» لإنقاذ اليونان وأوروبا، غير أنه واجه رفضاً ثابتاً وبصورة غير رسمية، وكانت خطته تتمثل في تحريك المياه الراكدة ولجوء اليونان إلى الحل الأخير، وهو رفض تحمل مزيد من الديون، والقفز من سفينة منطقة اليورو، غير أن «تسيبراس» تراجع، ومن ثم انهارت الخطة برمتها. ومعظم الأحداث التي يرويها المؤلف في كتابه تدور حول تفسيره لذلك الفشل. وإيماناً منه بالتفوق الأخلاقي والاقتصادي لخطته، يؤكد على حماقة خصومه ولا أخلاقيتهم السياسية، بل ويعتبر نفسه «العاقل الوحيد» في القاعة. ووصم المسؤولين البارزين، ومنهم خصمه وزير المالية الألماني «فولفجانج شويبله»، بأنهم يدفعون باتجاه «استبداد واهن» وسياساتهم تعتبر «حماقة منظمة»، و«إغراق مالي إلى حد الاختناق»، وزعم المؤلف أن «الترويكا» رفضت خطته لتفادي الإقرار بأن أخطاءهم هي التي فاقمت الأزمة. وبالطبع، لا بد لكل قصة من «أشرار»، وفي قصة «فاروفاكيس» كان الأشرار هم «الألمان»، فهو يزعم أن هدفهم الأساسي تعزيز سلطتهم، التي تعني سحق الحكومة اليونانية اليسارية، بحيث لا تتمكن من نقل أفكارها إلى بقية الأوروبيين. ولا يُكنّ المؤلف سوى «الازدراء» لبقية أوروبا التي خنعت بضعف أمام «سيدها» الجديد. ويدعي «فاروفاكيس» أن الفرنسيين في حالة «ضعف» بسبب عدم رغبتهم في التصدي للألمان، غير مدركين أن السياسة الألمانية تجاه اليونان كانت تهدف إلى توجيه رسالة إلى باريس أيضاً. ورغم ذلك، يقدم كتاب «عقلاء في القاعة» تفسيراً آخر لفشل «فاروفاكيس»، وهو أنه سعى إلى المفاوضات باعتباره أكاديمياً، متوهماً أنه يمكنه الانتصار بالحقائق والالتزام بالآداب العامة من جانبه في أي مناقشة، لكنه لم يكن مدركاً الحسابات السياسية التي توجه خصومه. ومن الصعب قراءة «عقلاء في القاعة»، دون الشعور بالإعجاب حيال التزام «فاروفاكيس» تجاه اليونان وأوروبا، وكذلك دون الإحباط بسبب عجزه أو ربما عدم رغبته في خوض الألعاب السياسية اللازمة لتوصيل أفكاره. واستقال المؤلف من عمله كوزير للمالية في يوليو 2015، بعد ستة أشهر فقط على توليه المنصب، وكتب على مدونته: «بلغني أن بعض أعضاء مجموعة اليورو والشركاء.. يفضلون غيابي عن الاجتماعات، وهي فكرة رأي رئيس الوزراء أنها قد تكون مفيدة من أجل التوصل إلى اتفاق». وائل بدران الكتاب: عقلاء في القاعة المؤلف: يانيس فاروفاكيس الناشر: فارار تاريخ النشر: 2017