إذا كان اهتمام العالم بقضية البيئة والحفاظ عليها قد ظهر في أوائل القرن العشرين وتجذّر خلال العقدين الأخيرين فحسب، فإن التصور الإسلامي أظهر منذ قرون طويلة اهتماماً خاصاً بقضية البيئة والحفاظ عليها، لم يقتصر على التعاليم والرؤى النظرية فقط، بل اشتمل أيضاً على إجراءات ميدانية وتطبيقات عملية، تتوازى وتتكامل مع ما يقره العالم حالياً ويبذل الجهود لتحقيقه، أي إيجاد بيئة نظيفة وسليمة من التلوث وقادرة على حماية التوازن الطبيعي بين عناصرها وملائمة لتحقيق التنمية المستدامة. وفي كتابه الذي نعرضه هنا، «حماية البيئة في الفكر الإسلامي»، يبرز الدكتور محمد يونس، الكاتب الصحفي والباحث الأكاديمي، الفائز بعدة جوائز علمية وإعلامية، ملامح الرؤية الإسلامية حول البيئة، وكونها تمثل منهجاً شاملا يربط العناية بالبيئة وحمايتها من التلوث بعقيدة الإنسان من جهة، ويدعوه إلى رشادة التعامل مع الموارد والعناصر الطبيعية من جهة ثانية، كما يتضمن التشريعات الرادعة والقدوة النموذجية فيما يتصل بحماية البيئة من جهة ثالثة. ويتضمن الكتاب ستة فصول تتناول مفهوم البيئة ومشكلاتها، والتلوث البيئي، ومفهوم البيئة في التصور الإسلامي، والتوازن البيئي في الرؤية الإسلامية، وعلاج قضايا البيئة في الفكر الإسلامي، ومعالجة القضايا البيئية في العالم الإسلامي حالياً. وفيما يتعلق بمفهوم البيئة في التصور الإسلامي، يستعرض المؤلف تعريفات العلماء الغربيين المعاصرين حول البيئة، إذ يعتبرونها المجال أو الوسط الذي يعيش فيها الإنسان، قبل أن يوضح أن التصور الإسلامي يقدم مفهوماً أكثر عمقاً وشمولا، إذ يربط البيئة بمجمل المنظومة الإيمانية للمسلم، لذلك نجد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة حافلين بنصوص كثيرة توضح علاقة الإنسان بالبيئة التي يعيش فيها، وهي علاقة تقوم على أساسين: أولهما التسخير، أي تسخير الله تعالى لمكونات البيئة والطبيعة كي تعين الإنسان وتساعده على أداء رسالته في إعمار الأرض والكون. وثانيهما الوسطية، وهي مرتبطة بالتسخير، إذ يستفيد الإنسان من تخسير مكونات البيئة وعناصرها بمنهج معتدل وأسلوب وسطي، بلا إسراف ولا تقتير. وهكذا ترتبط البيئة في المنظور الإسلامي أشد الارتباط بترشيد سلوك الإنسان وتزكية نفسه وتطهيرها وإعادة صياغتها على نحو مستقيم وخال من الانحرافات والعقد. وكما أن البيئة وعناصرها في التصور الإسلامي تمثل كياناً حياً له حس وانفعال خاص، فإنها من هذا المنظور أيضاً خُلقت بمقادير محددة وصفات معينة، بغية توفير سبل الحياة الملائمة للإنسان وغيره من الكائنات الحية الأخرى التي تشاركه الحياة على وجه الأرض. لذلك يتحدث القرآن الكريم عن حكمة الاتزان في البيئة بقوله تعالى: «إنا كل شيء خلقناه بقدَر»، أي بما يكفل لجميع المكونات والعناصر أن تؤدي أدوارها المحددة لها في حياة توافقية منسجمة ومتوازنة وقابلة للاستدامة. لذلك، يقول المؤلف، فقد اهتم العلماء المسلمون الأوائل بالبيئة وقضاياها اهتماماً واضحاً، إذ استخدموا الكلمة بمفهومها الاصطلاحي منذ القرن الثالث الهجري، للإشارة إلى الوسط الطبيعي الجغرافي والمكاني والأحيائي الذي يعيش فيه الكائن الحي، بما فيه الإنسان، وللإشارة إلى المناخ الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والفكري المحيط بالإنسان أيضاً. ويتعمق المؤلف في بيان الخصائص والمحددات المميزة للتصور الإسلامي حول البيئة والتوازن البيئي، التوازن الذي أشار إليه القرآن الكريم في العديد من الآيات، ومنها قوله تعالى: «والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون». لكن تدخلات الإنسان أدت إلى الإخلال بالتوازن والتكامل القائمين في الطبيعة، بسبب الطموح الزائد للإنسان وتطلعه اللامحدود نحو التملك، حيث يقول تعالى: «زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب». كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب». لذلك فأهم عامل مؤدٍ إلى اختلال التوازن البيئي هو الإسراف والنهم في إشباع الرغبات بصورة مفرطة وعنيفة حدَّ السفه والتبذير والهدر. وهنا، يقول المؤلف، تتجلى حكمة المنهج الإسلامي القائم على الوسطية والاعتدال في الإنفاق والاستهلاك، كما يأمرنا تعالى في قوله: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجداً وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين»، وقوله: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يَقْتُروا وكان بين ذلك قواماً»، ثم قوله: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسُطها كلَّ البسط فتقعُدَ ملوماً مَّحسوراً». وهكذا فإن التطبيق العملي لهذه الرؤية القرآنية في ميدان البيئة، يعني الحفاظ على البيئة وتوازناتها الطبيعية، وهو شرط أساسي في المنظور الإسلامي للتنمية المستدامة، والتي تتحقق بالسعي لإعمار الأرض إنفاذاً لقوله تعالى: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها»، والسعي أيضاً للتمكين فيها عملا بقوله تعالى: «ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش». وعليه فإن إعمار الأرض والتمكين فيها وتحمل أمانة ذلك، يقتضي من الإنسان حسن التدبير والإدارة. وهذا يكون بأمرين: الحفاظ على توازن البيئة ونواميس نظمها، وتحقيق البقاء لجميع الأنواع. وهكذا يقدم التصور الإسلامي حول البيئة وسبل حمايتها مدخلا شاملا لمعالجة الإشكال البيئي، مدخلا يقوم على التعايش السلمي بين الإنسان وبيئته، وعلى دعوة الناس إلى المحافظة على المصادر الطبيعية، كما يتضمن آليات للحفاظ على البيئة تحفز المسلم على زرع الأشجار وتخضير الأرض حتى آخر لحظة في حياته، وتجعل من الرأفة بالحيوان سبباً لدخول الجنة، ومن نقاء الماء وطهارته (أي سلامته من التلوث) شرطاً لصحة العبادة.. علاوة على العديد من الآليات والتعاليم والمثل الأخرى الرامية إلى حماية البيئة، والتي يشرحها الكتاب بتفصيل كبير في فصوله وصفحاته المختلفة. محمد ولد المنى الكتاب: حماية البيئة في الفكر الإسلامي المؤلف: د. محمد يونس الناشر: دار هماليل تاريخ النشر: 2017