ثمة سبب منطقي لاحتلال فنزويلا وعدد من دول أميركا اللاتينية مرتبة مرتفعة جداً في تصنيفات الفساد العالمية، وهو أن تلك الدول لديها مستويات شديدة من الروتين، إلى درجة أن الناس يكبرون وهم يعرفون أنهم سيبذلون جهوداً مضنية لإنجاز أشياء بسيطة. وقد كان ذلك هو أول شيء أفكر فيه عندما اطلعت على تقرير البنك الدولي الجديد الذي أظهر أن أميركا اللاتينية، بطرق شتى، هي أكثر المناطق بيروقراطية في العالم. والتقرير، المعنون «إنشاء الشركات في 2018»، يسلط الضوء على عدد من الإجراءات القانونية، التي يتعين على الناس حول العالم المرور بها للقيام بأمور بسيطة مثل بدء أعمال، أو الحصول على تصاريح بناء، أو تسجيل عقار. وتبدو نتائجه مربكة. ولتأسيس شركة جديدة، سواء أكانت مصنعاً كبيراً أو متجراً صغيراً، يتطلب الأمر في دول أميركا اللاتينية والكاريبي في المتوسط 8.4 إجراء، وهو أعلى من أي منطقة أخرى في العالم. وبالمقارنة، يبلغ المتوسط في دول شبه الصحراء الأفريقية 7.6 إجراء، وفي الولايات المتحدة والدول الأوروبية ذات الدخل المرتفع 4.9 إجراء. غير أن الأرقام تبدو مدهشة عند مقارنة الدول، وعلى رغم أنه في فنزويلا يحتاج المرء إلى الخوض في زهاء 20 إجراءً قانونياً لتأسيس شركة جديدة، وفي كثير من الأحيان الوقوف في طوابير في أماكن مختلفة لإتمامها، يبلغ عدد الإجراءات في الأرجنتين 13 إجراءً، مقارنة بـ11 إجراء في البرازيل، بينما يتطلب الأمر 8 إجراءات في المكسيك. ولا تحتاج في كندا سوى إلى إجراءين، وصولاً إلى إجراء واحد فقط في نيوزيلندا. ومن حيث عدد الأيام، تحتاج الإجراءات القانونية لإنشاء شركة جديدة في فنزويلا 230 يوماً، مقارنة بـ79 في البرازيل، و25 يوماً في الأرجنتين و17 يوماً في المكسيك. ويبدو الأمر أسهل في تشيلي، حيث تستغرق 7 أيام. وفي المقابل ففي كندا يحتاج تأسيس شركة إلى يوم ونصف، مقارنة بنصف يوم فقط في نيوزيلندا. وقد ساق البنك الدولي نموذجاً آخر في دراسته هو عدد الأيام اللازمة في كل دولة للحصول على تصريح بناء مخزن. ويستلزم ذلك في فنزويلا والبرازيل 434 يوماً، وأما في الأرجنتين فيحتاج إلى 347 يوماً، مقارنة بـ322 يوماً في بوليفيا، و205 أيام في جواتيمالا، و188 يوماً في بيرو، و132 يوماً في كولومبيا، و82 يوماً في المكسيك. وبالمقارنة، يقتضي الأمر 80 يوماً في الولايات المتحدة. ولعل الروتين هو أحد أهم الأسباب التي تجعل عدداً من دول أميركا اللاتينية من بين أكثر دول العالم فساداً، بحسب تصنيف معدلات الفساد السنوي لمنظمة الشفافية الدولية. ونظراً لأن قليلاً من الناس لديهم الوقت للخوض في تلك الإجراءات الحكومية المطلوبة، فإنهم إما يلجؤون إلى رشوة الموظفين الحكوميين لتسريع إجراءاتهم أو التغاضي ببساطة عن الحصول على تصاريح حكومية. ولعل القيام بإنشاءات من دون تصاريح كان أحد أسباب انهيار كثير من المباني والمنازل أثناء الزلزال الأخير في المكسيك، وزلزال 2010 في هاييتي، ذلك أن كثيراً من الإنشاءات لا تتبع قواعد السلامة بسبب المتطلبات القانونية التي يصعب تطبيقها. وعلاوة على ذلك، يعتبر الروتين المفرط أيضاً من الأسباب الرئيسة وراء اقتصاد الظل المتضخم في أميركا اللاتينية. ومثلما كشف الاقتصادي البيروفي «هيرناندو دي سوتو» في ثمانينيات القرن الماضي، ينضم كثير من الناس إلى الاقتصاد غير الرسمي بسبب الروتين، وما يقتضيه من رشى، وهو ما يجعل من المستحيل في كثير من الأحيان العمل بصورة قانونية. ولكن لماذا تعتبر أميركا اللاتينية بطلة العالم في البيروقراطية؟ ثمة أسباب كثيرة، من بينها أن الحكومات الشعبوية منحت وظائف حكومية لملايين من الناس لأسباب سياسية، وتعيّن عليها أن تجد لهم مهام يقومون بها. ولذا اخترعوا متطلبات بيروقراطية جديدة، وعيّنوا مفتشين وموظفي مكاتب لتطبيقها! وعندما فازت حكومات تدرك مسؤولياتها في الانتخابات، أضحت مترددة في تسريح الموظفين الحكوميين الذين لا تحتاج إليهم، لأن ذلك سيؤدي إلى احتجاجات. ومن ثم، مرت السنين، وتغولت البيروقراطية إلى مستويات قياسية. وعندما سألت عن الأشياء التي يمكن القيام بها لتقليص الروتين ومن ثم الفساد في أميركا اللاتينية، أخبرتني «ماريا أمبارو كاسار»، رئيسة «اتحاد المكسيكيين ضد الفساد والحصانة»، أن هناك ثلاثة أشياء هي: «التكنولوجيا ثم التكنولوجيا ثم التكنولوجيا». والحقيقة أنني أتفق تماماً مع ذلك، فتخليص كثير من المعاملات على الإنترنت، على الأقل بالنسبة لـ62 في المئة من الأميركيين اللاتينيين الذين يجيدون التعامل مع الشبكة العنكبوتية، سيساعدهم في توفير الوقت، والتخلص من الحاجة إلى رشوة الموظفين الحكوميين، وإخراج ملايين الناس من اقتصاد الظل، ولذا، فهي مشكلة سياسية يمكن حلها بشكل كبير من خلال التكنولوجيا. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»