ينحاز معتنقو الأيديولوجيات السياسية دوماً إلى حتميات تاريخية، فالشيوعيون اعتقدوا أن ديكتاتورية البروليتاريا ستحكم في النهاية، وبعض الليبراليين يتصورون أن الرأسمالية والديمقراطية هما «نهاية التاريخ وخاتم البشر»، ولكن كلا الاتجاهين لا يؤسس تصوره الخاطئ على معتقد ديني، كما تذهب الجماعات والتنظيمات الإسلاموية التي توظف الدين لتحصيل السلطة السياسية وحيازة الثروة والمكانة، والتي لا تختلف هنا كثيراً عن «اليمين المسيحي المتطرف» أو «اليهود الأرثوذكس»، فالجميع يتوهم أن الفوز سيكون من نصيبه في صراع الحياة المرير، ولم يتعلم هؤلاء درساً من إطاحة حكم تنظيم «الإخوان» الإرهابي في مصر، وهزيمة «القاعدة» في أفغانستان، و«داعش» في العراق وسوريا. وإذا كان من اليسير تفنيد بعض ما يعتنقه أصحاب الأيديولوجيات السياسية الخالصة، فإن نقد ما يذهب إليه من يخلطون الدين بالسياسة أصعب وأكثر تعقيداً. فهؤلاء يلبسون تصورهم البشري ثوباً مقدساً، ويصفون ما يدور في أذهانهم بأنه تعاليم إلهية، وأوامر ربانية! ومن ثم فسيكون على من يخالفهم الرأي عبئاً مضاعفاً، لأنهم سيتهمونه بالكفر أو على الأقل الفسوق والعصيان، وقد يستحل بعضهم دمه، وسيثيرون المجتمع ضده، في محاولة لإضعافه، أو إسكاته. فما طرحته الشيوعية عن حكم البروليتاريا، وما ذهب إليه ليبراليون بحديثهم أن ما وصلت إليه المجتمعات الرأسمالية في الوقت الراهن هو أرقى نظام اجتماعي وسياسي، ولن يكون بوسع البشر في أي مكان آخر أن يبدعوا ما هو أفضل منه، لاقى انتقادات لاذعة، ودبجت في تفنيده آلاف الدراسات، ولكن ما تعتقده الجماعات المتطرفة حول عودة «الخلافة» الإسلامية في النهاية، بعد مرور التاريخ الإسلامي بمراحل من الملك العضوض والجبريات أعقبت الخلافة الراشدة، يخشى كثيرون من التصدي له نقداً، لخوفهم من هجوم هؤلاء المسند بنصوص دينية، يؤولونها حسب ما تقتضيه مصلحتهم، مع أن نقد هذا التصور، الذي يخالف فكرة الدورات الحضارية المبرهنة تاريخياً، يبدو مهماً في الظرف الراهن. فإيمان هؤلاء بحتمية عودة «الخلافة» المزعومة طالما قادهم إلى معارك مريرة، مسلحة تارة وفقهية تارة أخرى، استنفدت على وجهيها جهداً كبيراً كان يمكن استخدامه في تطوير أفكار العمل السلمي الساعي إلى السلطة والثروة، بما يؤهله لطرح برامج عصرية للحكم، ويفرض دمجه في الشرعية السياسية والمشروعية القانونية. وكان أيضاً يمكن استخدامه في تشخيص داء التخلف المادي والفكري الذي يعاني منه المسلمون حالياً، حتى يكون بمقدورهم وصف الدواء الناجع، الذي يعيد إليهم ولو جزءاً من قوتهم الحضارية التي غربت منذ قرون، بدلاً من العيش في كهف التاريخ الذي تختلط حقائقه بكثير من الأوهام والأساطير. فالتاريخ الذي وصل إلينا حافل بالمجاز والاستعارة، مثلما هو واقعنا، وبذا قد تبدو حياتنا الاجتماعية أشبه بمسرح كبير. وتتسع وترتفع خشبة المسرح كلما انتقلنا إلى مجال الثقافة الشعبية Folk Culture، التي تمتلك قدرة على تجاوز حدود الزمان والمكان، وتزيد الحرية في إبداعها وتناولها والاستشهاد بها في الحياة اليومية، وتتعدد مجالات تفسيرها وتأويلها بما يساعد على ما يجري، حيث إن «الأحداث التي تشير إليها مثل هذه الثقافة، سواء كانت واقعية أم متخيلة، لها أصول تاريخية، حتى وإن داخلها شيء من الخيال، وهو ما يتجلى بوضوح في الملامح والسيَر، التي تحكي أحداث الماضي، الواقعي منه والمتخيل، والأمثال الشعبية التي صدرت في مواقف ومناسبات انقضت ثم نسيت تماماً بينما بقيت الأقوال والأحكام متداولة بين الناس على مر العصور، في ظل اتساع مغزاها وإمكان الرجوع إليها للتعبير عن واقع الحال، بغض النظر عن اختلاف الزمان والمكان»، كما يقول عالم الأنثربولوجيا المصري الكبير الدكتور أحمد أبو زيد في كتابه «هوية الثقافة العربية». إن التعلق بآمال عريضة والتمسك بغايات سامية مسألة ضرورية لإعطاء الحركة في الواقع المعيش زخماً أكبر وتصوراً أعمق وإصراراً أشد، شريطة أن تكون هذه الآمال وتلك الغايات قابلة للتحقق، وليست مجرد أوهام تتبدد حين يتم وضعها محل اختبار عملي، مثلما هو واضح في أفكار المتطرفين الذين يستغلون الدين بلا ورع ولا روية.