لمعظم دول العالم مستقبل لا يمكن التنبؤ به، إلا أن روسيا تنفرد بكون ماضيها هو الذي لا يمكن التنبؤ به أو الحكم عليه. ويبدو أن قشرة الكستناء السميكة التي كانت تغلّف هذه الحقيقة، تكسرت هذا العام لتكشف عن بعض الأسرار فيما كان الكرملين يبذل قصارى جهده قبل أيام بحثاً عن طريقة رسمية مناسبة للتعليق على الاحتفالية المئوية للثورة الروسية التي اندلعت عام 1917. وإذا كان من البديهي القول بأن التلاعب بالتاريخ من أجل تحقيق أغراض سياسية معينة هو أمر وارد وغير مستغرب عند بعض الأمم والشعوب، إلا أن استحضار التاريخ في روسيا غالباً ما كان يُستخدم كطريقة للإعلان عن الانتماء السياسي والأيديولوجي. وكانت "ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى" هي الأسطورة التي قام عليها الاتحاد السوفييتي يوم 7 نوفمبر 1917، وهو تاريخ الانتفاضة التي قذفت بالبلاشفة إلى قمة السلطة، والذي أصبح اليوم الوطني في روسيا وحيث كانت أرتال الدبابات وعربات نقل الصواريخ والصفوف الطويلة من الجنود الروس يشاركون جميعاً في العروض العسكرية التي تقام في الساحة الحمراء بهذه المناسبة من كل عام. وكانت كتابة تاريخ هذه الثورة ترتكز على الترويج لروسيا السوفييتية باعتبارها مقدمة لحلول عصر الحضارة الحقيقية على الرغم من الأخطاء التي وقعت فيها وخاصة خلال الحكم الاستبدادي لجوزيف ستالين بعد وفاة لينين. ثم جاءت نهاية الاتحاد السوفييتي عام 1991 لتوحي بأن تاريخه كان بلا هدف. وهكذا انهار النظام المبني على الدكتاتورية الشمولية التي سبق لها أن استلبت السلطة من الملكية المطلقة (حكم القياصرة)، ليجد الروس أنفسهم وهم مجبرون على مواجهة مهمة مؤلمة تكمن في الاختيار بين ما يمجدونه وما يكرهونه، وما يمثل الهدف الأسمى عندهم. وقبل قرن من الزمان، بدؤوا يشعرون بسحر كلمات تتردد على أسماعهم مثل "الليبرالية" و"الديمقراطية" و"الانتخابات" ولا زالت تسحرهم حتى يومنا هذا. وكل أولئك الذين عملوا على تأسيس الدولة الروسية القوية، بمن فيهم فلاديمير بوتين، عبروا عن عدم رضاهم عن زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين بسبب التنازلات السخية التي قدمها للألمان مقابل إنهاء الحرب معهم وأيضاً بسبب دوره في وصول الديكتاتور جوزيف ستالين إلى السلطة، وهو الذي لم يشهد نظامه نهايته إلا في عهد ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين. وكان سقوط الشيوعية يمثل بداية عهد الحرية بالنسبة للبعض، ونهاية للعهد الإمبراطوري بالنسبة لآخرين، ولكنه لم يكن يعني الكثير بالنسبة للروس الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، والذين أثبتت استطلاعات الرأي أنهم لا يعرفون الكثير عن ثورة عام 1917. ولم يعد ما حدث أثناء الثورة يتفق مع أي من الروايات المتضاربة التي تشاع حولها هذه الأيام. ويبدو بوضوح أن المفهوم الحقيقي "للثورة" والذي بلغ مرتبة القداسة في الأسطورة السوفييتية الواهية، أصابه الكثير من التغيّر والتحريف الجذري على خلفية حالة الفوضى والفقر التي شهدتها أعوام عقد التسعينيات. وحتى الآن، لا زالت الغالبية العظمى من المواطنين الروس الذين ينتمون لكافة الطبقات، يعلنون جهاراً بأنه مهما حدث فإن إعلان الثورة بات أمراً محظوراً لا يمكن أن يحدث أبداً. وهذا هو الموقف الذي يؤمن به فلاديمير بوتين بشكل قوي على الرغم من أن ما يدفعه لتبنيه ليس الخوف من فقد السلطة وفق الطريقة التي شهدتها الجارة أوكرانيا خلال "الثورة البرتقالية". والتاريخ الذي يسعى بوتين لكتابته الآن هو ذلك الذي تعتبر فيه روسيا امتداداً للدولة الروسية القوية التي ولدت عبر القرون منذ بداية عهود حكم القياصرة والبلاشفة وحتى وقتنا الراهن. ووفقاً لهذا المنظور، فإن الثورة لن تمثل أكثر من كارثة للشعب الروسي موحى بها من الخارج. وأشار رئيس "الجمعية التاريخية الروسية" سيرجي ناريشكين والذي يرأس أيضاً اللجنة المكلفة بتنظيم احتفالية مرور 100 عام على الثورة الروسية، إلى "تلك المراكز التي تقع وراء المحيطات، وحيث تتخذ فيها القرارات بتشجيع الانقلابات العسكرية داخل روسيا". وكان الكرملين شديد الحذر من تلميع صورة الثورة الروسية، ولهذا السبب حرصت اللجان الحكومية المعنية بإحياء هذه الذكرى على إطلاق أسماء مختارة بدقة لها مثل (ثورة عام 1917 في روسيا)، ومن دون الإشارة إلى كلمة (العظيمة) أو (الاشتراكية) أو (ثورة أكتوبر). كما حرصت القيادة السياسية في روسيا على عدم تنظيم أي فعاليات هامشية تواكب هذه المناسبة المهمة. سيرج شميمان محلل سياسي فرنسي من أصل روسي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"