«إني أعلن استقالتي من رئاسة الحكومة اللبنانية مع يقيني أن إرادة اللبنانيين أقوى، وسيكونون قادرين على التغلب على الوصاية من الداخل والخارج» بهذه العبارة أعلن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته في خطاب شديد اللهجة شن فيه هجوماً على إيران وميليشيات «حزب الله» لتدخلهم في الشؤون الداخلية للبنان، معرباً في الوقت ذاته عن خشيته من تعرضه للاغتيال. تاريخياً كانت الطائفية في لبنان مشكلة تقسم اللبنانيين، ثم تحولت إلى نظام سياسي له انعكاسات اجتماعية. وينفرد لبنان بتبني نظام سياسي يقوم على التمثيل الطائفي وضعت أسسه في «الميثاق الوطني»، وهو اتفاق غير مكتوب وضع أسس النظام الطائفي في الجمهورية بعد الاستقلال. فكانت الطائفية فلسفة مفترضة لإيجاد ضمانات للمجموعات الطائفية المتعايشة على الأرض للمشاركة في الحكم وتأمين الحريات الدينية والثقافية، إلا أن مشكلة لبنان الأساسية أصبحت قوة الطوائف إزاء الدولة وضعف الدولة حيال كيانات الطوائف. بدأت إيران بالتدخل في الشأن اللبناني في الوقت الذي كان فيه لبنان يعاني حرباً أهلية، واستغلت طهران حادث الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 فقامت بإرسال مجموعة من «الحرس الثوري» إلى وادي البقاع اللبناني، وتم تشكيل حزب أو حركة جديدة موالية لنظام ولاية الفقيه، فكان انشقاق «حزب اللـه» عن حركة «أمل» والإعلان عن تأسيسه عام 1985. وبالتدريج أصبح الحزب جزءاً من المعادلة الاجتماعية- السياسية في لبنان. وأدى اتفاق الطائف عام 1989 إلى إنهاء الحرب الأهلية ونزع السلاح من كل الميلشيات المسلحة عدا «حزب الله»، حيث لم ينزع منه السلاح تحت دعوى أنه حركة مقاومة، وكان استثناء «حزب الله» من هذا النص بقرار سوري وبدعم إيراني، ومن هنا تطور النفوذ الإيراني في لبنان. وتعزز الوجود الإيراني في لبنان عقب اتفاق الطائف والتفاهمات التي جرت مع النظام السياسي السوري، وخاصة مع وصول بشار الأسد إلى سدة الحكم في دمشق عام 2000. وكان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في فبراير 2005 ضربة شبه قاتلة للتوازن القائم بين السُّنة والشيعة في لبنان، والذي طالما نجحت سوريا في إدارته حتى ذلك الحين. كما أن مصرعه أنهى أيضاً الإشراف السوري على بنية الحكم الذي كان سائداً حتى ذلك الوقت في لبنان. وفي هذا السياق، أسفر اغتيال الحريري عن موت اتفاق الطائف سريرياً. لقد تغيرت آليات التنافس الطائفي في لبنان من خلال اغتيال واحد من ركائزه المحلية الرئيسة، الحريري، ومن خلال إضعاف دور سوريا باعتبارها الضمان الإقليمي للتوازنات الدقيقة في البلاد، فظهر التوتر الكامن بين اثنتين من القوى الطائفية الرئيسة المتنافسة على السلطة، السُّنة والشيعة فانتهى عهد المهادنة وبدأ عهد التحدّي، وبرز العنف باعتباره احتمالاً دائم الحضور. وتطور النفوذ الإيراني في الداخل اللبناني من خلال «حزب الله»، بعد «الربيع العربي» وقد ارتبط هذا التطور بالطبع بحالة عدم الاستقرار السياسي في لبنان وحالة عدم الاستقرار في الدول العربية، حيث هيأت الظروف الإقليمية الفرصة لطهران لإنجاح ترتيباتها في المنطقة، واستغلت في ذلك «حزب اللـه» وأدواته الإعلامية والثقافية والعسكرية لدعم السياسات الإيرانية. ويمثل «حزب الله» اللبناني أول التنظيمات الشيعية التي أسستها إيران خدمة لأهدافها الإيديولوجية ومصالحها الاستراتيجية، ومن ثم سعت إلى تعميم نموذج «حزب الله» في دول أخرى، ولاسيما الدول التي توجد فيها حاضنة اجتماعية للمشروع الإيراني. واليوم يواجه لبنان مأزقاً أمنياً حرجاً نتيجة لتورط «حزب اللـه» في الحرب السورية والحرب في اليمن، ويبدو جلياً أن لبنان سيتحمل تكاليف تحالفات «حزب الله» الإقليمية، إذ قال الحريري في خطاب استقالته: «أريد أن أقول لإيران وأتباعها إنهم خاسرون وستقطع الأيادي التي امتدت إلى الدول العربية. كما ردت عليكم في البحرين واليمن فسترد عليكم في كل أجزاء أمتنا الغالية، وسيرتد الشر إلى أهله» وللحديث اللبناني بقية.